تعد العقلانية من المرتكزات الرئيسة في قيام أي حضارة أو نهضة، أو في القيام بأي عملية إصلاح أو تجديد على كافة الأصعدة والمجالات، فمهما كانت المناهج الأخرى متجذرة تاريخيا واجتماعيا وتعطينا تصورات أنها المخلص النهائي لكل ما نعانيه من أزمات إلا أنها لا قيمة لها حينما تفتقد إلى العقل والعقلانية بداخلها، أو تفتقد لرجالاته، فالعقل إن لم يستقل فلا أقل من أن يدخل إلى تلك المناهج ليصبح ركيزة بها يحتويها لا أنها هي التي تحتويه فتصوغه بقالبها فيظهر مشوها، فما من حضارة قامت إلا ونجد العقل قائما ولا تنافسه أي مرجعية أخرى، وفي التاريخ الإنساني كله لم تقم حضارة كما قامت في العصر الحديث بعد الثورة الفرنسية والتي قامت على فلسفة التنوير المرتكزة على العقل والمبادئ الإنسانية التي يفعّلها ويهذبها العقل.

وفي التاريخ الإسلامي لم يبرز المسلمون إنتاجيا ومعرفيا وفقهيا مثلما برزوا في عصر العقل الوحيد في تاريخهم الذي لا يمتد مع الأسف أكثر من مئة وعشرين عاما، والذي ابتدأ مع ظهور الدولة العباسية، فتمخضت عن ذلك الترجمة المعروفة في عهد المأمون وما صاحبها من نقل للمعارف والعلوم، ونشوء المذاهب الفقهية، والصناعة كالساعة التي أهديت لشارلمان، وإنشاء بيت الحكمة واختراع الاسطرلاب، فقد كانت فترة تفوق حضاري لا عسكري كما صوّر لنا من خلال عرض الفتوحات فقط وتوسيع الرقعة، فالحضارة هي التفوق في جميع مجالات الحياة بداخل الدولة، بل نجد أن العقل نفسه إذا انتشر وساد لا تظهر معه تلك الغنوصيات والغيبيات والخرافات لأنها لا تنتشر حين مزاحمة العقل لها.

إن من أبرز معرقلات العقل والعقلانية الجهل به وبمعناه، فمازال الكثيرون يتصورون أنه العقل الفطري البسيط الذي يهدي الإنسان في تصرفاته، مع أنه أكبر من ذلك فهو منهج لا يوجد تلقائيا إلا إذا وضع واعتمد وأصبح منهج حياة يحتاج إلى تفعيل وعمل حقيقي، وإلا فهو غائب أو لا يعدو أن يكون شعارا جميلا يدعيه الجميع، دولا ومجتمعات، ويتغنون به ككثير من الشعارات، ولكن حين التمحيص نجد أنه يحارب تحت أي شعار، والأسوأ من محاربته هو اختزاله في أبسط أدواره واختزاله فيما ليس منه كقصره على الحسابات المادية، وأحيانا خلطه بأفعال غريزية كحفظ المال والابتعاد عن مكامن الخطر وتجنب الحروب مع أنه أبعد من ذلك، فسيادة العقل هي سيادته كمرجعية كبرى في المجتمع والدولة بحث يطغى على كل الأيديولوجيات الأخرى، وأن تكون الشخصيات البارزة والمتفوقة هي تلك الشخصيات التي عرفت به أكثر من أداء الوظيفة الاجتماعية أو الإدارية، وأن نجد أن كل الأعمال والآراء متعمقة ولا يحملها إلا من تفوق عقلا، لا أن نجد كما هو حاصل الآن أن الأعمال والآراء المنتشرة يمكن للمتفوق وغير المتفوق حملها أو فعلها أو الدفاع عنها، بل إننا لنجد تلازما بين سدنتها وبين بعدهم عن العقلنة مما يعني أنها خارج العقل، فهنا لاعقلانية مسيطرة، إضافة للقدرة على الخروج من المتناقضات بل عدم وجودها أصلا، والقدرة على تحليل الظواهر، والقدرة على الربط بينها، وسرعة ابتكار الحلول وسرعة التفاعل معها، والاستجابة الشعبية لها، والأهم من كل ذلك هو أن يكون آسرا للشخص كما تأسره الأيديولوجيا من معتقدات أو عادات أو تقاليد، أي يتوجس ويتردد من فعل مصادم للعقل كتوجسه من فعل مصادم للأيديولوجيا.