مِنْ أطرف ما مَرَّ بي بيتان لا أَعْرِف لهما، حتَّى اليوم ثالثًا، لشاعرٍ مكِّيٍّ اسمه حسن سَحْرَا - ويُلْفَظ، كذلك، صَحْرَة - يقول فيهما:

ظَبْيُ جَاوَا قَدْ سَبَانِي لَفْظُهُ الدُّرُّ النَّفِيسْ

ثَغْرُهُ كَنْزُ اللَّآلِي رِيقُهُ أَنْقُرْمَنِيسْ


قَرَأْتُ البيتين في مقالاتٍ للأديب والمؤرِّخ محمَّد حسين زيدان، وفي كِتابٍ للأديب والصَّحفيّ عثمان حافظ، واستجلبا نظري لا بِمَا انطوَيا عليه مِنْ بلاغةٍ آسِرَة، أوْ تصويرٍ بديع، وكُنْتُ أضحك لهما كُلَّما مَرَّا بي، حتَّى إذا نسيتُهما مُدَّةً تطول أوْ تقصر، أعود فأقرأهما ثانيةً، فيرسمان على شفتي الابتسامة، ويشغلانني، حينًا مِنَ الزَّمان، حتَّى بَدَا لي أنْ أُعَلِّقهما فيما أُعَلِّقه مِنْ طرائف.

وقُلْتُ: لا بأس، فلَعَلَّ الزَّمان يبوح بشيء مِنْ خبرهما، وما يدريني فلَعَلِّي أَقِف على ثالثهما، إنْ كان لهما ثالِث، أوْ على القصيدة الَّتي يرتفعان إليها، إنْ كانا يرتفعان إلى قصيدة، لكنَّني لمْ أظفرْ، حتَّى اليوم، بجديدٍ عنهما، فعسى مُقْبِل الأيَّام يَعِدُنا بشيء مِنْ نَّبئهما.

والعجيب أنَّ صاحب هذين البيتين معدود في أعلام الأدباء والعُلَماء في مكَّة المكرَّمة - حرسها الله - في عصرها الحاضر، وإذا أردْنا التَّعيين، ففي العصر الَّذي يسبق الرَّعيل الأوَّل مِنَ رُوَّاد الأدب في الحجاز؛ تَرْجَمَ له عبد الله أبو الخَيْر مرداد «ت 1343هـ» في كِتابه نَشْر النَّوْر والزَّهَر، ونَلقى ترجمته في مختصَرَيْه نَظْم الدُّرَر للعَلَّامة عبد الله الغازي المكِّيّ، والمختصَر مِنْ نَشْر النَّوْر والزَّهَر للأديبين محمَّد سعيد العاموديّ وأحمد عَلِيّ، ولا جديد يُذْكَر في فيض الملك الوَهَّاب المتعالي، لعبد السَّتَّار الدَّهلويّ وسِواه مِنَ الكُتُب الَّتي لاذَتْ بكِتاب مرداد.

وها هي ذِي ترجمته: «السَّيِّد حسن صَحْرَة المكِّيّ، الفاضل الأديب، الشَّاعر، وُلِدَ بمكَّة المكرَّمة وبها نَشَأ، وقَرَأَ النَّحْو والصَّرف والفقه والعَرُوض على غير واحدٍ مِنَ الأجِلَّاء، مِنْهم: السَّيِّد أحمد دحلان، والشَّيْخ إبراهيم الفَتَّة الحنفيّ، وبَرَعَ في الأدب، ونَظَمَ الشِّعْر الرَّايِق الفائق، ونَجب، وتوفِّيَ بمكَّة عقيمًا في سنة «بياض في الأصل» وثلاثمئة وألف، ودُفِنَ بالمعلاة، وقدْ قارَبَ السَّبعين.

ومِنْ نَظْمه قوله مُخَمِّسًا هذين البيتين:

وَغَادَةٍ مِنْ سُلافِ التِّيهِ قَدْ سَكرَتْ

صَدَّتْ بِلا سَبَبٍ عَمْدًا ولِي هَجَرَتْ

لِمِثْلِهَا أَعْيُنِي واللَّهِ ما نَظَرَتْ

وَرْدِيَّةُ الخَدِّ بِالوَرْدِيِّ قَدْ خَطَرَتْ

تَمِيسُ تِيْهًا وَتَثْنِي القَدَّ إِعْجَابَا

مِنْ حُسْنِ طَلْعَتِها شَمْسُ الضُّحَى أَفَلَتْ

تُزْرِي بِغُصْنِ النَّقَا يَوْمًاإِذا انْفَلَتَتْ

وَكَمْ بِأَسْمَرِ قَدٍّ عَاشِقًا قَتَلَتْ

لَمْ يَكْفِ قامتَهَا الهَيْفَاءَ ما فَعَلَتْ

حتَّى مِنْ دَمِ العُشَّاقِ أَثْوَابَا «كذا»

كان مُقَدَّرًا لاسْم حسن سَحْرَا أن يمضي كعشرات الأعلام الَّذين زَخَرَتْ بهم كُتُب التَّراجم والسِّيَر في البلد الحرام، لولا بيتاه الظَّريفان هذان، ولولا أنَّ محمَّد حسين زيدان استنقذَهما لَمَّا تَوَقَّفَ عندهما ثلاث مَرَّات؛ الأُولَى والثَّانية في كِتابيه كلمة ونِصْف وتَمْر وجَمْر؛ ساقَهما في مجلسٍ في المدينة المنوَّرة، ضَمَّ مِنْ وُجُوه الحُجَّاج والزُّوَّار أمين الحسينيّ، ورياض الصُّلْح، وبشير السَّعداويّ، وعِزَّة دَرْوَزَة، واتَّفَقَ أنْ كان في المدينة مَنِ اسْمُهُ عقل، وكانَتْ له قُدْرة عجيبة على النَّظْم والارتجال، فاختبرَه صاحبنا زيدان بالبيتين المذكورين، «فأسرع كبارِقٍ يرسل السِّتِّين والسَّبعين على هذا الرَّوِيّ، ونحن نسمع ولا نقدر نكتب» !

والمَرَّة الثَّالثة في مقالةٍ أبان فيها عمَّا غارَ في نفسه، وكان موضوعها الجَمَال والمرأة والأصوات النَّدِيَّة، يستوي لديه صوت محمَّد رفعتْ في تلاوة القرآن الكريم، وصوت فيروز في الشَّدْو والغناء، ونَزَل على شرط المقال، فجَعَلَ يستذكر طَرَفًا مِنَ الشِّعْر، وشيئًا مِنَ الغناء، ولطالما وَصَفَ محمَّد حسين زيدان المدينة المنوَّرة بأنَّ «تُرْبتها غَزِلَة»، وأهلها بأنَّهم مجتمع طَرُوب!

فأدَّى إلينا شيئين: نفسه السَّمْحة، وما أدركه مِنْ تاريخ الغناء والطَّرَب في المدينة المنوَّرة.

قال صاحب خواطِر مُجَنَّحَة: «حينما كُنَّا شبابًا، وكانَتْ نشأتنا في طيبة الطَّيِّبة، وتُرْبتُها غَزِلَة، وإذا ما مَسَّنا وَهَجُ الجَمَال، في الإنسان، وفيما حوالي الإنسان، و»العقيق«الوادي الجميل، مرتع الغَزَل والمتغزِّلِين أيَّام كان»التَّرَف«عُذْرِيًّا، والعِشْق تَصَوُّفًا».

حِين كُنَّا كذلك، لمْ نتعمَّقْ في قراءة الشِّعْر، الَّذي يستجيده الباحثون، يتعالَى به النَّاقدون على الشِّعْر الَّذي يجري على الألسنة، ألسنتنا نحن الشَّباب، الَّذين كُنَّا ما نعيش الغُرْبة عن التُّربة، ولمْ يتملَّكْنا سُعار الاغتراب، كما يجري على ألسنتنا هذا الشِّعْر، الَّذي كان يسترخصه مَن يتَّهمون عَصْره بعصر التَّخلُّف، فإليكم هذه الأمثلة:

صَاحَ فِي العَاشِقِينَ يَا لَكِنَانَهْ

رَشَأٌ فِي الْجُفُونِ مِنْهُ كِنَانَهْ

بَدَوِيٌّ بَدَتْ طَلَائِعُ لَحْظَيْهِ

فَكَانَتْ فَتَّاكَةً فَتَّانَهْ

خَطَرَاتُ النَّسِيمِ تَجْرَحُ خَدَّيْهِ

وَلَمْسُ الحَرِيرِ يُدْمِي بَنَانَهْ

نراه شِعْرًا جميلًا، يَصِف واقعًا عَمَّا أفعم الأفئدة بِحُبِّ الجَمَال «...» وما أحلَى البيتين للشَّاعر المكِّيّ «سَحْرَا»:

ظَبْيُ جَاوَا قَدْ سَبَانِي لَفْظُهُ الدُّرُّ النَّفِيسْ

ثَغْرُهُ كَنْزُ اللَّآلِي رِيقُهُ أَنْقُرْمَنِيسْ

وقال بَعْدَهُ: «أليس هذا شِعْرًا عَبَّرَ عن الشُّعُور؟ فَمِنَ التَّعَسُّف والرَّفض لهذه الحِلْيَة البيانيَّة أنْ نرفضها»!

وكلمة زيدان، على قِصَرها، تجلو لنا أمرين مهمَّين في تاريخنا الثَّقافيّ والاجتماعيّ؛ أوَّلُهما بيئة الغناء والطَّرَب، في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، في صِبَاه وشبابه.

وعلينا أنْ نعطي كُتُبه وفُصُوله ومقالاته ما تستحقُّه مِنَ الأناة والتَّرَيُّث، فلا نَمُرَّ بها مُسْرِعين، فمِنْ عادة الشَّيخ - رحمه الله - أن يُمْلِيَ على كاتِبٍ ما ينشره، فإذا أَخَذَ في الإملاء جَعَلَتِ الموضوعاتُ تنثال عليه انثيالًا، فإذا غُصْنا في الفُصُول الَّتي أنشأَها فُزْنا بما لا نتوقَّعه، ولا عَجَبَ فالرَّجُل ذو ذاكرة لا تكاد تخرم حرفًا، عاصَرَ أحداثًا لا نَجِدُ لها وَصْفًا أَدَقَّ مِنْ عنوان كِتابه البديع ذكريات العُهُود الثَّلاثة، ولا يَخْدَعنَّا جَمَال أسلوبه ولا روعة ذكرياته عنْ أنْ نستأني، فنُقَيِّد حياةً كاملةً، هي بعض ما أدركه في تلك العُهُود مِنْ أدب، وثقافة، وفنٍّ، وما شئنا مِنْ أحوال المدينة المنوَّرة، بَلِ الحجاز عامَّةً، وأحسب، اليومَ، أنَّه واجبٌ على مؤرِّخ الفنِّ، والموسيقا والغِناء خاصَّةً، أن يُولِي كُتُب زيدان ومقالاته فَضْل عناية، ففيها تاريخ مَنْسِيّ ينبغي تقييده، ويشبهه، في هذا المسعَى، رُصَفاء له، أذكر مِنْهم عبد الحقّ النَّقشبنديّ، ومحمَّد سعيد دفتردار، وعثمان حافظ، وعبيد مدنيّ.

وثاني الأمرين وآخِرُهما أنَّ الشِّعْر، في زمن ما قبل الرُّوَّاد، كان بعضه مِمَّا يتعاطاه أهل الغِناء والطَّرَب، في مجالس الأدباء والعُلَماء، وقَيْلاتهم وسَمْراتهم، وفي البساتين، وكأنَّما كان الشِّعْر يُنْظَم، خِصِّيصَى، ليُغَنَّى، لا لِيَنْقُده النَّاقدون.

وعلينا - وهذا مذهب صاحبنا - أنْ لا نشتطَّ في أحكامنا، فنُجْرِيَ مقاييس النَّقد الأدبيّ ومعاييره على شِعْرٍ أُرِيدَ له أن يكون للغِناء والطَّرَب، بلْ عساه ما نُظِمَ إلَّا في مجلسٍ مِّنْ مجالسهما.

وفي تاريخ الأدب العربيّ، وفي تاريخ الأدب في هذه البلاد، كان نَظْم الشِّعْر والرِّياضة عليه مِنْ مُتَمِّمات الشَّخصيَّة؛ فالعالِم يَنْظِمه، والمدرِّس يقوله، والطَّالِب يُجَرِّبه، تُلْجِئهم إليه حياةٌ ليس فيها مِنَ المُلْهِيات ما يُخَفِّف مِنْ جَفائها وحُزُونتها، إلَّا الشِّعْر والغِناء والسَّمَر، وكان مِنْ عادة القوم أن يقصدوا ظاهِر بلداتهم، يريدون النُّزْهة والمَقِيل في هذا البستان أوْ ذاك، فإذا قالُوا هناك وأصابوا ما لَذَّ وطابَ، فليس إلَّا الشِّعْر والغِناء.

ولقدْ سَقَطَ إلينا قَدْرٌ لا بأس به مِنْ أشعارٍ مَّا قِيلَتْ إلَّا تَمَرُّنا على النَّظْم، أوْ إظهارَ القُدْرة عليه، فكان ما نَعْرفه مِنْ شِعْر التَّشطير والتَّخميس والتَّطريز والمعارَضات وما إليها، ولمْ يَكُنْ هذا اللَّون مِنَ الشِّعْر خاصًّا بزمنِ ما قبل الرُّوَّاد، فنرميهِ بالتَّخلُّف والتَّأخُّر، إنَّما هو لونٌ شاعَ في أدب الرُّوَّاد عندنا وعند غيرنا، وليس ينبغي المبالغة في اطِّراحه، والسُّكُوت عن البيئة الَّتي نَشَأَ فيها.

إذنْ، كان وَصْف محمَّد حسين زيدان لهذا اللَّوْن مِنَ الشِّعْر صائبًا، وعنده - وعندي، كذلك! - أنَّ جَمَاله إنَّما يكمن في مُراعاته لعِلَّة إنشائه ونَظْمه، وأنَّ علينا أنْ نتقبَّله لاتِّصاله بالغِناء والطَّرَب، والنُّزْهات والقَيْلَات، فإذا عَرَفْنا ذلك تَيَسَّرَ تفسير ما فيه مِنْ ألوان البديع والصَّنْعة، مِمَّا شاع في العُصُور المتأخِّرة، ومِمَّا يحلو في تلك المجتمعات، بلْ عسانا ننظر بِعَيْن التَّسامُح إلى ما في بعضه مِنْ نُبُوٍّ وفُحْش، أقربُ الظَّنِّ أنَّهما لا يتعدَّيان التَّفَكُّه، والسُّخْر، والرِّياضة على النَّظْم، بَلْ عساه ما أُرِيدَ به غير السُّخْف الَّذي يَشيع، عادةً، في مجالس الفراغ والنُّزْهات، وقدْ طالما مَرَّتْ بنا، في كُتُب الأدب والأخبار، والتَّراجم والسِّيَر، أقوالٌ مِنْ هذا القَبِيل، تَكَرَّرَتْ فيها عِبَارة «اقترح عَلَيَّ - أوْ عليه - النَّظْم في...»، ولمْ يَكُنْ ذلك بعيدًا قَصِيًّا، بلْ إنَّنا نَقِف على شواهدَ مِنْه في شِعْر عبد الوهَّاب آشيّ «1323-1405هــ»، وهو معدودٌ في رُوَّاد الأدب في بلادنا، بَلْ مِنَ الرَّعيل الأوَّل فيهم! وأنا لا أدافع عنْ حسن سَحْرا ولا عنْ بيتيه الطَّريفَين، وإنْ أحزنَنِي ضياع خَبَره وشِعْره، وهو قريب عهدٍ بنا، وغايتي أنْ أَفْهَم هذا اللَّون مِنَ الشِّعْر، مهما صَدَدْنا عنه، ويكفيني مِنْه دِلالته على حياةٍ، أراد مِنْها أصحابها تخفيف ما فيها مِنْ جساوةٍ وخُشُونةٍ، بالنُّزْهات والقَيلات والمواسِم، وبالشِّعْر والغِناء = ثُمَّ ما انطوَى عليه هذا الشِّعْر المُغَنَّى مِنْ فَنٍّ يُصَوِّر به أصحابه بلاغةً شعبيَّةً ساذجةً، قِوَامُها ما تَحَدَّرَ إليهم مِنْ مسكوكات يُشَبِّه فيها الأقدمون المرأةَ الجميلةَ بالظَّبْي.

ولكنَّ شاعر المتنزَّهات والقَيلات يأبَى إلَّا أن يضيف إلى بلاغة الأقدمين بلاغةً جديدةً، انتزعها مِمَّا أَلَمَّ به في مكَّة المكرَّمة؛ فالظَّبْيُ ليس ظَبْيًا مِنَ الأعاريب، كذلك الَّذي صَوَّرَهُ الشُّعراءُ الماضُون = إنَّما هو ظَبْيٌ جاوِيٌّ! وإنْ شِئْتَ بالإضافة «ظَبْيُ جاوَا»، وأنتَ تَعْرِف أنَّ «جاوَا» هذه هي تلك الجزيرة الإندونيسيَّة المشهورة، وأنَّ المكِّيِّين يُعَمِّمون لفظ «جاوَا، والنِّسبة إليه جاوِيّ» = يريدون كُلَّ مَنْ وَفَدَ على واديهم المبارك مِنْ تلك الجزيرة، خاصَّةً، ومِنْ إندونيسيا، وماليزيا، والفلبِّين، وما حَفَّ بتلك النَّواحي، عامَّةً، ولَعَلَّ المكِّيِّين كانوا يأنسون كثيرًا إلى هذا الشِّعْر، ولولا ذلك ما غَنَّوْه.

ونحن لا نَعْرِف شيئًا عن المُغَنِّي الَّذي صَدَحَ به، ولا اللَّحْن، وإنْ عَرَفْنا مقدار تَوَلُّعهم بالجَمَال الجاوِيّ! وكان سائغًا أن يُتِمَّ الشَّاعرُ المكِّيُّ بلاغته الشَّعبيَّة، بتصويرٍ له آصِرة بالظِّباء الجاوِيَّة اللَّواتي فَتَنَّ قُلُوب المكِّيِّين، وقدْ يُخَيَّل إلينا أنَّ تشبيه لفظها بالدُّرِّ، وأسنانها باللآلِئ لا جديد فيه يخالِف سُنَّة الشُّعراء مِنْ قَبْلُ = وأنَّ الجديد ذا الأرُومة الجاوِيَّة، إنَّما هو تشبيه رِيق تلك الظَّبية الحسناء بـ«الأَنْقُرْمَنِيس» - بالقاف المعقودة – وكان الرِّيق يُشَبَّه بالخَمْر، والشَّهْد، والمِسْك، والحَقُّ أنَّ صاحِبنا حسن سَحْرا لا يزال عربيّ التَّصوير؛ ذلك أنَّ الأَنْقُرْمَنِيس - فيما أفادَنيه الشَّاعر فاروق بنجر – وهو عليمٌ باللُّغة المَلايويَّة = يعني «العِنَب الحُلْو» «أَنْقُر: عنب، مَنِيس: حلو»، فإذا تَجَاوَزْنا تشبيه العرب رِيق الحسناء بالخَمْر، وهي ابنة العِنَب، فإنَّ التَّشبيه بالعِنَب نَفْسه كان تقليدًا شِعْرِيًّا مألوفًا، ولَعَلَّك توافقني على أنَّ الطَّرافة في البيتين مبعثُها عِبَارة «الأَنْقُرْمَنِيس» الملايويَّة، وتَعْرِف أنَّ الشَّاعر المَكِّيَّ، مهما كان جادًّا أوْ ساخِرًا، أوْ مُوَرِيًّا، لمْ يَخْرُجْ عنْ تراثٍ كان شُعَراؤه، منذ الجاهليَّة، يُشَبِّهون حبيباتهم بالظباء الحسناوات.

على أنَّ هناك حلوى إندونيسيَّة - أوْ جاوِيَّة – تُدْعَى «أَقَرْمَنِيس» = أدخلها الحُجَّاج الإندونيسيُّون إلى مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، واستطابها النَّاس حتَّى صارَتْ مِنْ مأكولهم ومشروبهم، فإنْ كُنْتَ مِنْ أهل المدينتين المقدَّستين عَرَفْتَ معناها، وإنْ تَكُنْ مِنْ سِوَاهما فحَسْبُكَ أنْ تَطْعَم «المَاسِيَّة»، لِتَذُوقَ رِيقَ تلك الظَّبية الجاوِيَّة، فهذه هي تلك.