في منتصف الشهر الجاري، وتحديداً في مطار حامد كرزاي بالعاصمة الأفغانية كابل طائرة الشحن الأمريكية ( C-17) تدير عجلاتها وتستأذن برج المراقبة للإقلاع من المدرج محملة بالخيبات والآلام، ويزفها مئات البشر بفوضى عارمة بعد توجيهات أمريكا لحط معدات الإجلاء للإخلاء استتباعاً للمصالح، كانت تلك الطائرة محاطة بمئات المدنيين الأفغان الذين لم يحالفهم الحظ أن يفوجوا بداخلها، كان ممن بقي في باحات المطار من تمنى لو أنه برغي في المساعدات أو مكابح في العجلات، والبعض لم يزل يصارع من أجل البقاء بالرحيل حتى لو كانت تلك المغامرة مميتة قاطعة للأحلام اليائسة والأمنيات البائسة.

العدسات تلتقط صوراً لمقصورة الطائرة والناظر إليها تنتابه الحيرة والدهشة، وتثار أمام نسج خيالاته التعجب والاستفهام، كيف اعتلوا؟ وكيف علوا؟ مشهد محزن ومرعب في الوقت ذاته وأنت تتأمل تلك الصورة من الداخل وهي تحتضن مئات البشر بلا كراسي، ولا أحزمة أمان، وكأنهم يودعون يوماً حافلاً بالشقاء رحيلاً من المعلوم إلى المجهول، ومواجهة حتمية قواماً على خطر ومغامرة على غرر، فما فتئوا يقارعون ويجالدون حتى قروا على متنها في سعادة وكأنهم هاربون من السجن إلى الحياة . منهم من لم يحالفه الحظ فبقي على دفة عجلات الطائرة متشبثاً بشيء من بقايا الحياة، ومنهم من واجه مصيره بالصمود أمام رصاص أمن المطار فأصيب من أصيب، وقتل من قتل، أما من استوى على دفة العجلات كان ذا مخاطرة أعلى لأنه يرى أن البقاء في الأرض أخطر من موته في السماء، ومن زاوية المخاطرة خفي على الطائر مقصوص الجناحين أن تلك الدفة التي استوى عليها ستنطوي ميكانيكياً لتغطي العجلات بعد الإقلاع، ولكن لا حسابات مع الحياة الكريمة فكان دافعا لهم في مواجهة الماضي المرير، والسنوات العجاف من الحروب الهاتفة بإحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة. الهروب من الحروب جزء من المصارعة لبقاء الإنسان أحياناً أو استدراك شيء من حقوقه المجمع عليها شرعياً وعالمياً، أو خشية على نفسه وأهله من ويلات الظلم والطغيان، ولعمرك فقد أظهرت الصور الجوية تلك الطائرة وهي تبدأ في التحليق والأجساد تترامى على ارتفاع لا تكاد ترى بالعين المجردة، ناهيك عن نتائج التحقيقات الفيدرالية بعد أن حطت الطائرة وتجلى للعيان أنه لا يزال شذرات ورفات لأرواح تلك الطيور المهاجرات، لم يكن لها أهمية أو حظوة من النصوص العريضة لقرارات الإيكاو واتفاقيات شيكاغو. خلف قرار انسحاب القوات الأمريكية في هزيع ليل اهتزاع الأمن، وشيوع الخوف ليس الخوف من الموت من خطر المجهول؛ إنما الخوف من رد الفعل لحزب سياسي أقصي بالقوة من المشاركة في إدارة ملف بلاده منذ عام 2001م لمزاعم تربطه آنذاك بتنظيم "القاعدة" التي تبنت هجمات في الولايات المتحدة سبتمبر من ذلك العام.

وعلى النسق ذاته خشية الفشل في إدارة ملف البلاد التي تعيش بين أنقاض حروب متعددة الأطياف منذ زمن بعيد وبين هضم الحقوق السياسية والإنسانية ومصادرتها .


كانت قد سعت دولة الإسناد السياسي، أو ما يسميه البعض الاحتلال الأمريكي بقواعده المحلية في أفغانستان أو اللوجستية في دول الجوار إلى عجز أمام تغيرات الهوية الوطنية، وإن كانت قد جعلت لها خطوط متوازية وطنية وعسكرية ضد هيمنة التيارات الفكرية، أو المستنقعات الإرهابية التي تجد لها بيئة جاذبة في تضاريس ذلك البلد منذ انتهاء الحرب الباردة وانسحاب السوفيت في فبراير 1989م.

يعيد التاريخ أحداثه وتنسحب القوات الأمريكية في 2021م بعد قرابة الربع قرن بحمل ثقيل من الخيبة التي قد تجد لها منطلقاً صريحاً من مصالحها الجيوسياسية أو الجيو استراتيجية التي لم تنسجم مع رؤية الرئيس الأمريكي السابق وجهوده فأمطرها بوابل من النقد ووصفها بالاستسلام وليس الانسحاب.

لا تزال قوات طالبان في تحد أمام هذه المرحلة ولم يغن عنها هذا من الحق شيئاً وهي تعلن عدم محاسبة مناوئيها السابقين في الحكم، والمعتقد، والسياسة إلا أن مخاوف المواطنين لم تتبدد وأعداد الطوابير في ازياد مضطرد أمام السفارات الأجنبية طلباً للهجرة تشير تقارير الأمم المتحدة سابقاً إلى أن حركة طالبان مسئولة عن 65% من الهجمات بينما يتحمل تنظيم داعش 10% و13% لعناصر أخرى كل هذه كانت أزمة أمام النظام الحاكم الذي استنزفته الحروب والفساد .

أما على سبيل انتهاء الصراع، فمما لاشك فيه وبحسب الدراسات المتخصصة فإن الحروب والصراعات العسكرية والحزبية في أفغانستان قد تنتهي بإحدى هذه الحالات :

1- تواؤم وجهات النظر بين التيارات السياسية التي نشأ الصراع بسببها .

2- توصل أي من الأطراف إلى الهدف .

3- بناء أحد الأطراف مصالحه المحلية والدولية بطريقة مختلفة، وهذا السبب هو أعظم تحد أمام الحركة المستنهضة حالياً .

4- انهيار أو استسلام أحد أطراف الصراع للآخر لا تفسير أكثر مما سبق وشاهدناه في مطلع الشهر الجاري وما سبقه من مباحثات، ومفاوضات حققت مراد طرفين وأُكره بها آخرون .

إلا أن التساؤلات العميقة هل تتبنى الديوبندية روح التجديد والعمل برؤية عبدالرحمن تاج شيخ الأزهر، رحمه الله، الذي يقول " أحكام السياسة ليست من الفقه العام الثابت الذي لا يتحول ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال، ولكنها من الفقه المرن أو المتحرك الذي يراعى فيه مسايرة الزمن ويحقق المطالب التي تتجدد وتتنوع حسب تطورات الأمم وأحوال الأفراد".

كل ما سبق لا يهم بقدر ما يهم مصلحة الشعب الأفغاني في المقام الأول الذي يصارع لأجل البقاء منذ نصف قرن وأكثر ولا يزال صامداً أمام التحديات والانقسامات، هل ستشهد هذه الحركة تغيرات سياسية وتطورات مدنية وحضارية؟ أم ستبقى على الفكر والأيديولوجية ذاتها؟ أم أنها من واقع التعددية في التجارب قد لبست مفاهيم ما يعرف في تحليل الصراعات بلحظة (النضج أو الاستواء)، وهذه المرحلة سياسياً تفترض في الحركة المعالجة الجذرية إزاء المشكلات الأساسية والإنسانية، وهذه نهاية الصراع المشروطة كما يرى المنظرون السياسيون، وما عداها يبقى تسويات مرحلية أو شكلية لا تغير من واقع الأمر شيئاً بل قد تزداد سوءا وتجر وبالا..