كنت أبحث في مكتبتي الخاصة عن بعض المذكرات والمقتنيات القديمة، حيث إن لدينا أملًا كبيرًا في تأليف عدد من الكتب العلمية والتراثية والأدبية -بإذن الله- لوجود المادة والمحتوى، لكنها مبعثرة هنا وهناك.

فوجدت هذه الخاطرة التي كتبتها في حينها عندما كنت أحضر الدكتوراه في أمريكا، وبالتحديد في يوم 1988/11/09م، عندما تقابلت مع زميلي الصيني «هونقويز باو»،والذي كان ترتيبه على دولة الصين الأول في المرحلة الثانوية وفي مرحلة البكالوريوس، وكانت البعثات الصينية إلى أمريكا تحكمها اتفاقيات تجبر الطلبة الصينيين على العودة إلى بلدهم فور إنهائهم دراستهم الجامعية.

وهذه الاتفاقيات الدولية تجعل الطالب يخضع لفيزا خاصة لا تتعلق بالطلبة مثل F1 (فيزا الطلاب). بحكم الاتفاقيات الدولية يمنح بعض الطلبة «J1» فيزا، والتي تجعل الطالب يعود مباشرةً إلى وطنه ولا يمكنه المكوث في أمريكا ولا العودة إليها إلا بعد خمس سنوات، وكنت أنا من ضمن هؤلاء الطلاب وعدد من طلاب جامعة الملك سعود.


ولكن أخي باو «Bao»، كان أكثر حظًا من الصينيين المبتعثين من قبل دولتهم. فقد حظي بشرف الدراسة والسكن على نفقة أحد القساوسة، حيث ذهب هذا القس إلى الصين واستقطب «باو» وعددًا آخر من الطلبة المتميزين على حساب جمعية تنتمي إلى الكنيسة. كان «باو» صديقي الخاص وهو بطبعه يحب المسلمين، حيث ذكر لي أن جارهم في الصين البيت بالبيت أسرة صينية مسلمة. وكان بينه صداقة محبة وود مع ابنهم. فكانوا في رمضان عندما كانوا في عمر مبكر، المسلمون يجبرون ابنهم بالصيام في رمضان، فكان يتقاسم مع «باو» الوجبة في الصباح، والطفل المسلم يشاركه وجبته في المساء (وجبة الفطور في رمضان).

جمعني به التخصص وبعض المواد، وزرته في منزله الفخم، حيث كان يسكن مع القسيس في بيته.

وكان يحظى بخدمه راقية، وأزكى أنواع الطعام.

ذات يوم خرجنا من المحاضرة والحزن يغمر قلوبنا.

حزنه كان بسبب مشرفه، وحزني بسبب ظروف عائلية في أرض الوطن، إضافة إلى صعوبة الحياة والدراسة. لذا قررنا عدم مواصلة الدراسة،هو مرحلة الماجستير وأنا مرحلة الدكتوراه.

كنا جميعنا لا نزال في مرحلة المواد ونبحث عن مشرفين، مشرف ماجستير على «باو» ومشرف لنا في مرحلة الدكتوراه. هو استقطبه أحد أعضاء هيئة التدريس، ولكنه لم يكن بالمستوى المطلوب وفي تخصص غير مجد له في المستقبل.

ذهبت أنا وصديقي الصيني إلى مقهى جميل داخل أسوار الجامعة، وقررنا عدم المواصلة، هو يعود أو يذهب إلى جامعة أخرى لأنه لا يستطيع أن يكمل مع المشرف نفسه، وقد لا يقبله أحد من الأساتذة المتخصصين في الاتصالات، وقد يفقد مواصلة الدراسة تمامًا عند خروجه من هذه المدينة، لعدم توفر السكن والعيش، وهو فقير لا يملك المال للذهاب إلى جامعة أخرى.

وأنا لدي ظروف صعبة تتعلق بأسرتي في السعودية، ولابد من عودتي.

قررنا في هذا اليوم أن نكتب الأسطر المرفقة. كتبتها بالعربي وترجمتها له. فكان رده هذا «جميل أخي عوض وحافظ عليها من باب الذكرى»،فقد تضحكنا يومًا ما وقد تحزننا.

كان موقفًا رهيبًا وحزنًا شديدًا انعكس على حالتنا النفسية. عدنا إلى منازلنا وكان القرار بالنسبة لي العودة، وبالنسبة لباو عدم الاستمرار مع هذا المشرف الذي لا يعجبه.

باو طالب ذكي جدًا، بل أعلى مستوى من مشرفه فيما يخص الرياضيات والتفكير والإبداع.

في اليوم التالي ذهبت إلى مشرفي الدكتور شوباش كواترا هندي الأصل، أمريكي الجنسية،وذكرت له قراري وظروفي.

ابتسم، ثم طلب مني أن أعد لي كأس كوفي «قهوة أمريكية»،وبالمصادفة، كان يدرسني أنا وباو المادة نفسها،وكانت مواضيع متقدمة في الاتصالات، كنت حزينًا جدًا، وملامحي متغيرة، ولاحظ هذا بل أبدى شفقته وعطفه.

وكونه قدم لي الكوفي وأصغى إلينا وتفاعل معي، كان بالنسبة لي شيئًا عظيمًا قدرته له.

قال لي اسمع: «listen to me». بهذا القرار ستكون الخاسر الأكبر، وأسرتك ودولتك خسرت عليك الكثير ولم يبق لك الكثير من المواد، وفي القريب العاجل تنهي امتحانات قبول الدكتوراه، وتصبح طالبًا مرشحا للدكتوراه، وأنا متأكد أنك ستتجاوزها، وأنت الآن في أمريكا آلاف الطلاب في عالمنا الثالث يتمنى أن يقبل ويدرس هنا،والله اختارك من بينهم وهذه فرصة العمر، حاول حل المشكلة عن بعد. مشاكلنا نحن العالم الثالث كثيرة سببها الترابطات الأسرية والاجتماعية، ركز على الهدف الذي أتيت من أجله.

وفي هذه الأثناء كنت أفكر كذلك في باو،وأعرف أنه جرت العادة بأن أعضاء هيئة التدريس لا يتدخلون في الطالب إذا قُرِر له مشرف من قبل القسم، فقلت له هناك مشكلة أخرى سعادة البروفيسور كواترا، فكان رده: أكبر من عدم مواصلتك الدكتوراه.

ذكرت له ظروف باو، فكان رده هذا شيء طبيعي، لكنني لا أعلم لماذا اختار هذا المشرف.

فذكرت له أنه يرغب في العمل معك، ويرغب في التخصص في الاتصالات وبالتحديد الاتصالات اللاسلكية، الجوال تحديدًا.

فابتسم ابتسامة عريضة، وقال الآن نحن على أبواب الحصول على دعم في مجال الاتصالات اللاسلكية، واطلب منه أن يأتيني في المكتب. شكرته، وخرجت من مكتبه مسرعًا لمقابلة صديقي الصيني «باو».

كان لنا صديق حبيب أمريكي من أصل ألماني، اسمه «مارك» يدرس معنا في الكورس «المادة» مع الدكتور كواترا، ولكنه بدأ بحثه المدعوم من وكالة «ناسا» في مجال تشفير قناة الاتصالات (Channel Coding)، ويعرف في علم الاتصالات بـ تشفير تربو (Trbuo Coding)، وقد دعمته «وكالة ناسا»، فرع كليفلاند، وساعدته في إنشاء شركة صغيرة متخصصة في التشفير، وكانت شركته داخل أسوار مركز الأبحاث، وكان «باو» مغرمًا بهذا التخصص، ويساعد مارك في الخوارزميات الرياضية.

أتيتهما وهما جالسان في المعمل والحزن يكسو وجه صديقي «باو»، فقلت له أبشر بالفرج. لم يرد علينا، وزاد حزنه، وبدأ يتحدث، ألم نتفق أنا وأنت أن نقابل المشرفين وننهي العلاقة بهذه الجامعة، فقلت له بلى.

فرد علينا قائلًا، اليوم أنهيت علاقتي بمشرفي وذكرت له أنني لا أستطيع أن أكمل معك. فرد عليه «قائلًا ادفع لنا الرواتب التي استلمتها من الجامعة وقيمة الأجهزة والمواد التي تم تزويدك بها في المعمل من أجل بحثك».

أنت تعلم يا «باو» أن هذه من المشروع المدعوم (كلام مشرف باو)، والآن كيف أستطيع التخلص من هذا المشرف وكيف أدفع هذه المبالغ،فذكرت له «أمرك بإذن الله محلول»،اذهب إلى مشرفي لأنه هو الآخر لديه رغبة في التحدث إليك بعد أن ذكرت له ظروفك.

لم تتغير ملامح الحزن، ولكن تدخل صديقنا مارك قائلًا الدكتور كواترا سيحل مشكلتك. لديه مشاريع كثيرة ودعم سخي من ناسا (NASA)، كذلك هو المشرف العام على الدراسات العليا في الجامعة، وأنت طالب متميز كُل يتمنى العمل معك.

تغيرت ملامح باو وذهبنا مسرعين لمحاضراتنا المتفرقة، عند الساعة الثالثة اجتمعنا في محاضرة الدكتور كواترا وكان يلمحني سارحًا وحزينا.

فخرج عن المحاضرة ثوانٍ معدودات قائلًا: «الدنيا أحيانًا تقسو على الإنسان وتعصره، فيجب عليه ألا يكون مثلها ويقسو على نفسه وروحه ومن حوله».

كانت رسالة سريعة ومشفرة ومباشرة. طالعت في باو وهو كذلك بادلني النظرة نفسها. واستمر الدكتور في محاضرته. بعد إنهائه المحاضرة طلب من باو الذهاب معه إلى مكتبه. ذهبت مباشرة إلى البيت وحاولت ألا أقسو على أسرتي وألا أشاركهم حزني، ولكني زدتهم همّا من تصرفاتي.

فجأة اتصل بي أحد الأصدقاء (طيار حربي) من لوس أنجلوس، كان في مهمة رسمية ويكبرني في السن بحوالي 15 سنة، وهو من الجماعة، واعتبره قدوة لنا، لأنه نشأ مثلنا يتيم الأب، وله فضل كبير علينا، حيث إنه يعود له الفضل بعد الله في تسجيلي في ثانوية اليمامة في الرياض. وأقدره كثيرًا. سأل عن أحوالي، فذكرت له قراري، فكان رده قويًا جدًا ومقنعًا. ويعرف بعضًا من الظروف. فطلب مني الصبر إلى الصيف ثم أعود، وقد تنحل كثير من الأمور. بل أقسم قسمًا غليظًا ألا أعود، وأنا جايك رغم ظروفي الصعبة في العمل. تحدثنا قليلا، واتفقنا على ألا يزورني، وأن يطمني بعد عودته السعودية.

طلب مني أن أصبر أسبوعين إلى أن يعود ويتولى الأمر بنفسه.

الحقيقة اتصال هذا الصديق كان له بالغ الأثر. فلم يسبق له أن كلمني منذ زمن بعيد جدًا، ولكن محاسن الصدف. سبحان الله. بعد أسبوع انحلت مشكلة صديقي الصيني وأصبح تحت إشراف الدكتور كواترا، وتعدلت نفسيته، وأبدع، وتخرج، وعمل في شركة في لوس انجليس، وحصل على براءة اختراع، جعلته يصبح أحد الملاك، وأحضر والده ووالدته إلى أمريكا لأنها كانت غاية أمنياته. وحصل على الجنسية الأمريكية.

بالنسبة لي بدأت تنحل معظم المشاكل وذهب صديقي إلى أمي واصطحبها معه إلى كابينة الهاتف في بلّسمر، وكانت أول مرة أسمع صوتها عبر الهاتف. أغدقت الدمع، وقالت والله يا عوض إن تركت دراستك ولم تكمل ازعل عليك. هذا يزيدك ضعفًا. خلك رجال واصبر وتعال بشهادة تنفعنا وتنفع أسرتك وديرتك. والله إن قطعت دراستك «ما عاد أسلم عليك».

طلبت منها أن تدعو لي وتممت لها طلبها. وكلمت صديقي عبدالرحمن لماذا تخبر أمي؟ مالك حق زدتها همًّا على همّ الله يسامحك.

رد علينا ببرود قائلًا باقي الإخوان والأعمام والجماعة كلهم بيكلمونك.

في هذا اليوم قرأت هذه المذكرة القديمة التي أثارت الشجون، وجعلتني أتأكد أن الصبر هو أساس السعادة والنجاح والفلاح والوصول إلى الهدف المنشود في حياة الإنسان. والحمد لله على توفيقه لنا.