ولقد شاهد الاجتماع حشد كبير منهم غصت بهم قاعة مسرح الجمهورية يومين متتاليين .
وفي هذا الاجتماع قرأ الدكتور ثروت عكاشة تقريره عن حالة الكتاب العربي ، وكان كعادته صريحا وحاسما وأمينا على وضع الحقائق أمام الأنظار . فجاء تقريره بمثابة وثيقة ادانة لسنوات طويلة من الفوضى والاضطراب في عالم الكتاب العربي . ثم تحدث عن الامال أو ما يسمونه في دهاليز الوزارات " الخطة " فأكد اهتمام الوزارة بالارتقاء بمستوى الكتاب العربي مضمونا وشكلا واهتمامها بتيسير وصوله الى الناس واهتمامها بمنع التبديد والاسراف والسفه في الانفاق واهتمامها باحياء التراث واهتمامها بوضع الكتاب العربي في خدمة المجتمع واهتمامها بإحياء مشروعات جليلة كمشروعات دوائر المعارف ومشروعات المعاجم ..الخ .
وقد عشنا معه ساعات نحلم بأحلامه لأنها احلامنا ونتألم لآلامه لأنها آلامنا . وقد تناقش المتناقشون في التقرير فلم يأتوا بجديد كثير ، لأن موضوع الكتاب العربي وترقيته موضوع مستهلك معاد ، طالما بحت الأصوات في الحديث عنه .ولذا فاني سأوجز أرائي في كلمات ينصرف أكثرها الى التنظيم لا الى الخطة .
في رأيي أن تقسيم العمل في صناعة الكتاب العربي الى شركتين، شركة تعنى بالطباعة والنشر ، وشركة تعنى بالتوزيع خطوة الى الأمام لان ادماج دور النشر ذات الهدف المتشابه أدعى الى تنسيق العمل واختزال النفقات ولكن هذه الخطوة الجديدة في رأيي أيضاً خطوة غير كافية لانها لا تعترف بمبدأ التخصص وتقسيم العمل اعترافا كافيا .
وقد كان أولى بوزارة الثقافة أن تقسم أجهزة مؤسسة التأليف والطباعة والنشر إلى ثلاثة أجهزة : جهاز للنشر لا عمل له الا النشر وجهاز للطباعة لا عمل له الا الطباعة وجهاز للتوزيع لا عمل له الا التوزيع ، على ان تعمل هذه الأجهزة الثلاثة تحت ولاية المؤسسة . فكما ان وزارة الثقافة مقتنعة بأن التوزيع شيء والنشر شيء آخر ، فقد وجب ان تدعى الى الاقتناع بأن الطباعة شيء والنشر شيء آخر .
أما ادماج وظيفتي الطباعة و النشر في جهاز واحد هو دار الكاتب العربي فهو في نظري استمرار للخطة التقليدية التي لا تميز بين هاتين الوظيفتين . في رأيي أن وضع الطباعة و النشر تحت ادارة مباشرة واحدة قد يضر الطباعة ولا يفيد النشر .
فالطباعة علم تكنولوجي وخبرة ادارية وتنظيمية لا صلة لهما البتة بعمل الناشر . فعمل الناشر مقصور أو ينبغي أن يكون مقصورا على معرفة الكتاب الجيد من الكتاب الردئ ، وعلى معرفة الكتاب النافع من الكتاب الضار ، وعلى معرفة كتاب الخاصة من كتاب الجماهير . وهذه كلها أمور تتصل بنوعية المؤلفات والمترجمات وليس بكيفية اصدارها أو توزيعها .
الاصل في الناشر أنه انسان يعرف سواء بشخصه أو عن طريق لجانه ومستشاريه أن ديوان فلان أو رواية علان أو بحث باحث أو ترجمة مترجم عمل جيد أو عمل مبتسر سقيم ، ويعرف إن كان مضمون هذا الديوان أو هذه الرواية أو هذا البحث أو هذه الترجمة يخدم الثقافة أو التقدم أم يفسدها . و الأصل في الناشر أنه انسان قادر على معرفة الموهبة اذا رآها حريص على رعاية صاحبها ولو كان برعما وليدا ، والأصل فيه أيضاً أنه خبير في مستويات الثقافة بين الكتاب و الجمهور على السواء ، يسدد لكل مستوى ما هو بحاجة اليه من ناحية و ما يجب ان يكون بحاجة اليه من ناحية أخرى حتى يرتفع درجة أو درجات .
فان وجد مثل هذا الناشر كان من الخطأ أن ننتظر منه أيضا أن يكون عارفا بآلات الطباعة واسرارها ، ومن الخطأ أن ننتظر منه أن يكون خبيرا في فتح دكاكين الكتب ، تلك التي يسمونها مراكز التوزيع ، ومن الخطأ أن ننتظر منه أن يكون أستاذا في التسويق والاعلان ، فهذه كلها فنون تجارية لصناعة الكتاب ولبلوغ الكتاب غايته التي انشئ من أجلها ، ولكنها في الوقت نفسه لا علاقة لها بعمل الناشر الا في ظل النظام الرأسمالي البدائي الساذج، حين كانت صناعة الكتاب في عمومها مجرد استثمار تجاري لا يختلف في كثير عن صناعة الأحذية أو صناعة المجوهرات ، وحين كان الناشر في العادة مغامرا فردا فريدا يعمل لحسابه أو لحساب الشركات المساهمة ، اجتمعت له أسرار الادارة والتنظيم والتسويق والطباعة والاعلان والعلاقات العامة والخاصة ويضاف الى هذا كله الخبرة بمواهب الكتاب وبملكات الجمهور ثم شيء من القرصنة وفن السطو على ثمرات قرائح الغير وعلى مجهود العمال من أجل تحقيق أكبر نسبة من الأرباح .
وكثير من المآسي التي عرفتها مصر في الماضي ، ولا تزال تعاني منها في عالم النشر ، كان نتيجة لمزج هذه السلطات في فرد واحد ، فكم من دار من دور النشر اشتغلت بالنشر والطبع والتوزيع في وقت واحد ، وكان الغرض من هذه السيطرة على دورة الكتاب الكاملة سيطرة تامة بحيث لا تفلت حلقة من حلقاتها ، وبحيث تلتقي أسرار المطبعة وأسرار التوزيع في درج واحد ، هو درج التاجر الذي يسمي نفسه ناشرا.
فلا يعرف المؤلف كم نسخة طبعت حقاً ولا كم نسخة وزعت حقاً من مؤلفه , بل لا يعرف المؤلف ان كان ما يوزع في الناس هو الطبعة الأولى أو الثانية أو الثالثة .
بل وفي بعض الأحيان لا تعرف مصلحة الضرائب ان كانت دار النشر قد نشرت الكتاب أو ذاك في عام كذا ، أو في عام كذا ، حتى تحاسب الناشر .
وكان الناشر في العادة أستاذا في التسويق وربما في التنظيم وادارة البشر مهما كان جاهلا أو ناقصا في الثقافة والهدف السامي . وقد كان كل هذا طبيعيا في ظل النظام الرأسمالي القائم على مزيج من القرصنة والاجتهاد الفردي في سبيل الربح .
1971*
* ناقد وأكاديمي مصري " 1915 - 1990".