ما أن فعلت وزارة الثقافة الجانب الفني من رؤية 2030 من استحضار الفن لبلادنا بكل أشكاله، من فنون موسيقية ومسرحية وسينمائية وغيرها، ومنحت المواطنين فرصة أن يسعدوا ويستمتعوا بوجوده، حتى حدث استنفار مجتمعي وضجيج ثقافي من كثير من فئات المجتمع، والتي نادت حالاً بمقاطعته ومنعه واستعدائه.

وعلى الرغم من كل تلك الأصوات العالية المعارضة، والتي لم تترك وسيلة تواصل اجتماعي إلا بكت وتباكت فيها وحكت وتحاكت وعرضت واستعرضت فيها كرهها ومعاداتها القديمة الأبدية للفن، إلا أن الإقبال على تلك المظاهر الفنية من حفلات موسيقية ومسرحيات وأفلام سينمائية، كان قياسياً، وكانت تذاكر تلك العروض تنفد بعد عرضها للبيع بساعات معدودة.

لماذا يا ترى؟! لماذا كل ذلك الإقبال على كل تلك العروض الفنية، على الرغم من كل تلك المعارضة؟! قد تكون الإجابة عند شخص كان يعيش في أثينا منذ أكثر من ألفين وثلاثمائة عام، وهو مؤسس علم المنطق ألا هو كبير الفلاسفة أرسطو.


فأرسطو يرد الفن إلى غريزتين فطريتين: غريزة أن يحاكي الإنسان سواه، وغريزة أن يسر للمحاكاة التي يؤديها الآخرون بغض النظر عن نوعها. ويعتبر أرسطو كل الفنون محاكيات بوسائل مختلفة، منها فن الدراما والتمثيل المسرحي، حيث يعرفها بأنها محاكاة حركية مشخصة، متأصلة من غريزة المحاكاة ولذتها لدى الإنسان، حيث إنها غريزة مشتركة بين كل الناس.

يقول هنا أرسطو إن الناس لا يكفون عن الاستجابة لندائها وإغرائها وإيجادها في مختلف تعبيراتهم.

فغريزة التمثيل تبحث عن إشباعها بوسائل وطرق مختلفة كثيرة، هي الصيغ والأساليب التي يجدها الإنسان للتعبير والتواصل والتفاعل لاكتساب المعرفة.

وهي أساليب متنوعة يصعب حصرها، ومن أبرزها أشكال التعبير الفرجوية والمرويات الطقوسية والمظاهر الاحتفالية المشخصة التي تبتدعها الثقافات الشعبية في مختلف الأماكن والمراحل والحقب والسياقات، وهي أشكال تتميز بتميز الشعوب وتختلف باختلافها وتتطور بتطور وسائل وشروط معيشتها.

وغريزة التمثيل تتمظهر في أفعال بشرية لا حصر لها، تظهر لدى الإنسان منذ طفولته، متمثلة في لعبه الجدي والممتع وفي كل مراحل نموه منذ البأبأه إلى بنائه منازل من الرمل.

وغريزة المحاكاة ليست فقط لها انعكاسات فنية، بل لها انعكاسات علمية أيضا، حيث إن من أنواع المحاكاة، المحاكاة الحيوية وهي تقليد الإنسان لنماذج وأنظمة وعناصر من الطبيعة بغرض حل المشاكل المعقدة. وهذا ما حدث مع الأخوين رايت عندما صنعوا أول نموذج طيران ناجح، حيث كانت آلية التحكم بالجناح مستوحاة من الطريقة التي تستخدم فيها الطيور تيارات الهواء لتكسب قوة دفع وتغيير الاتجاه.

وعلى الرغم من كل ما نرى من فضل لغريزة المحاكاة وانعكاسات وجودها علينا كبشر، إلا أننا نظل نصر على تذليل قيمة جانب المحاكاة في داخلنا ونبقى متحيزين دائماً إلى فقط غريزة البقاء لدينا، ولا نحلل غير وسائلها من أكل وشرب وتزاوج وتكاثر بينما نكره ونحقر وسائل غريزة المحاكاة في داخلنا. لماذا؟! .

ربما لأن الاهتمام بإشباع غريزة المحاكاة لدينا يحتاج لوعي فكري بوجودها وأهميتها وضرر إهمالها، بينما غريزة البقاء واحتياجاتها وسبلها معروفة لدى الإنسان بالفطرة لا يحتاج إلى تعلم ولا تثقف للوعي بها.

وثقافتنا العربية عموماً وثقافة مجتمعنا الحالية خاصةً تفصلهما مئات السنوات والكيلو مترات عن فيلسوف الفلاسفة أرسطو الذي شرح قيمة الفن، بل حتى من تبع طريق الفلسفة بعد أرسطو عندنا مثل ابن رشد فقد كانت نهايته نفيه وحرق كتبه.

إلا أنه حديثاً تقدم علم النفس ليصرح بأهمية الفن في حياة الإنسان حفاظًاًّ على صحته النفسية والتي تتداعى وتنهار ما أن تحرم من المحاكاة الفنية والتعبير عن مكنوناتها وسرائرها بالفن.

حيث صرح حديثاً علماء النفس بأن الاكتئاب من أكثر الأسباب المؤدية للأمراض الجسدية، وحتى الوفاة عند الإنسان، وهذا يخبرنا كيف أن الإنسان يحتاج إشباع غرائزه الأخرى كالمحاكاة الفنية وغيرها ليتمكن من البقاء.

وذلك لأن الإنسان مخلوق راق ليس من سماته أن يكتفي بإشباع احتياجات غريزة البقاء لديه دوناً عن باقي غرائزه الأخرى الراقية، فحرمانه من تلبية احتياجاته من محاكاة فنية وإبداعية يؤدي في النهاية إلى انهياره. وطبعاً هذا بخلاف الكائنات الحية الأخرى على هذا الكوكب والتي كل ما تفعله في حياتها هو أن ترضي غريزة البقاء لديها وتهرب من الفناء بأن تؤمن مأكلها ومشربها وتكاثرها، بل إن كل السلوكيات التي تتعلمها وتمارسها من جيل إلى جيل هي فقط لهدف البقاء وحفظ النوع.. فليس هناك سلحفاة تهتم أن تعيش في منزل جميل مزين بأجمل الديكورات والتحف الهندسية.. وليس هناك أسد يعزف الجيتار بالليل ليستمتع هو وقبيلته بصوت الموسيقى، فالأسد في النهاية لا يشغله إلا الصيد لتأمين غدائه وغداء صغاره.. ولن ترى ثعلبا يستخدم يديه لرسم لوحة للشمس والشجر، وغيرها من جماليات الطبيعة.

وإن كانت الكثير من الحيوانات تعيش في أماكن طبيعية جميلة إلا أنها لا تحاكي جماليتها لا بالرسم ولا بالتمثيل ولا الموسيقى والغناء.. والحيوانات ليست فقط لا تمارس المحاكاة الفنية، فهي أيضا لا تستلذ لرؤية تلك المحاكاة أو سماعها.. وإن كانت على سبيل المثال لا تستطيع ممارسة المحاكاة الموسيقية المتمثلة بالعزف أو الغناء نظراً لضعف ذكائها مقارنةً بالبشر واختلاف تفاصيل جسدها عنه تشريحياً، فهي أيضا لا تستلذ بسماع تلك الموسيقى، ولا تستأنس وترقص لسماعها كما يفعل البشر.

كما لن ترى يوماً حيوانات تحاول أن تدخل متحف اللوفر لرؤية لوحاته أو تحاول أن تدخل خلسة لمبنى قديم جميل معمارياً فقط لتستمتع وتسر لجمالها، كما يفعل البشر عندما يزورون المباني القديمة الجميلة بالمدن التي يزوروها خلال رحلاتهم السياحية.

ولن تجد يوماً حيوانًاًّ مندمجا بمشاهدة فيلم أو مسرحية في التليفزيون أو أن تكون تلك المشاهدة عادة أو هواية بالنسبة له.. ذلك لأن صنع الفنون والاستئناس بها صفة إنسانية بحتة يتصف بها الإنسان لوحده دوناً عن باقي كل الكائنات على وجه البسيطة.. لذا فهي تعتبر غريزة راقية لأنها تخص هذا المخلوق الراقي وحده.

وهذا ما يجعل الفن والإنسان والرقي ثلاث صفات متلازمة لبعضهم البعض، لا تحضر فيهم واحدة دوناً عن شريكيها الآخرين.

ورغم ذلك فإن هناك من يحرم المحاكاة الفنية ويمنعها عن نفسه وعن غيره.. ويحلل لنفسه فقط ما تتطلبه غريزة البقاء من سبل كالأكل والشرب والتزاوج والتكاثر، بالإضافة إلى بعض السبل الأخرى للحفاظ على البقاء.. كالاستفادة مما يقدمه العلم والتقدم التكنولوجي من منتجات.. كأنواع العلاجات الطبية المتطورة باختلافها ووسائل طبخ، وحفظ الطعام من أفران وثلاجات ووسائل نقل ومواصلات.

وأخيرا وليس آخرا وسائل التواصل الحديثة والسريعة كاستخدام الإنترنت وغيره.. فكل منتجات التكنولوجيا الحديثة التي تسمح لنفسها فئة «مستحرمين الفنون» لنفسها واتباعها باستخدامها، إذا تعمقنا للنظر لها هي طرق للبقاء، وربما لولاها لما حافظ الجنس البشري على بقائه وتحدى بها كل حروب الانقراض التي واجهته على مر الزمان.

وكمثل بسيط نرى مثلاً كيف أن التكنولوجيا ساعدتنا في مواجهة وباء الكورونا والحد من انتشاره قدر الإمكان.. فغير المنتجات الطبية من أقنعة وكحول، وغيرها من وسائل الحد من انتقال البكتيريا.. أيضاً كل ما نملكه في بيوتنا من طرق الحصول على الطعام وحفظه داخل منازلنا دون الحاجة للخروج للحصول عليه من مكان إنتاجه الأولي، سواء كان من اللحم أو النبات أو حتى الماء ساعدنا على البقاء داخل جحورنا أثناء الحظر محافظين على تباعدنا الاجتماعي وقتها قدر الإمكان.

ولا ننسى أيضا دور الإنترنت الذي ساعدنا بإنهاء جميع معاملاتنا وحتى أداء وظائفنا من داخل منازلنا.. ولازالت تلك الشبكة العنكبوتية بتطبيقاتها الجديدة تساعدنا قدر الإمكان في قطع دابر سبل العدوى.. وهذا الذي لم يحدث لأسلافنا مع الكثير من أنواع العدوى التي واجهوها خلال مر الأزمان، لذلك كانت الخسائر أكبر والأوضاع أصعب.

فكل تلك الحداثة العلمية البحتة والتقدم بصنع الآلة كان دائماً من سبل الحفاظ على البقاء لكل من أنعم الله عليه بالحصول عليها.. فمنتجات التكنولوجيا يستخدمها كل من استطاع إليها سبيلاً، ولا حتى تستوجب التفكير دائماً أو التردد باستخدامها أو لا، لذا لا نرى ثقافات كثيرة تحرمها أو تمنعها لأنها بغريزة البقاء لديها تعلم يقيناً وتُقدر أن لا سبيل للعيش بدونها.

لذا إباحة استخدام منتجات التكنولوجيا وتداولها لا يدل على الرقي لأنها في النهاية من سبل البقاء وقد تكون من أقوى سبله.. وتخدم البقاء للإنسان كما يخدمه التزاوج والتكاثر والأكل والشرب وغيره.. لذا لا تستطيع أن تصف أُمة بأنها راقية وهي كل ما تقوم به هو البقاء وتتجاهل التحاكي بأجمل صوره المتمثلة بالفنون.

الفنون التي تصف وتوثق وتعبر عن كل ما يمر به الإنسان بكل تطوراته العمرية ومراحله التاريخية.. الفنون التي وصفت ووثقت حضارة الفراعنة والحضارة الإغريقية والآشورية والبابلية وغيرها.. الفنون التي رسمت ماري أنطوانيت ووصفت حياتها الملكية البذخة ونحتت حتشبسوت ووصفت جمالها وحكت تاريخها وقوة حكمها.

الفنون ومنها موسيقى البلوز التي حكت أحزان وآلام السود في بداية القرن العشرين وعبرت للعالم كله عن آلام استعبادهم وظلت تعبر وتحكي عن أحزانهم حتى اشتقت منها أنواع أخرى جديدة من الموسيقى كالجاز والريم أند بلوز والروك آن رول.. والتي خلفت مشوار موسيقى البلوز الثقافي وساهمت في ثورات الشباب في الستينيات والسبعينيات ضد السلطوية في أمريكا وأوروبا الغربية.

وسبب كل هذا الأثر للموسيقى هو أن الفن بكل أنواعه وسيلة قوية للتعبير والتواصل والوعي بين البشر ويتغلب في هذا الدور حتى على الكلمة المكتوبة أو المقروءة.. فقد تكتب مظلوميتك برسالة وتنشرها وتوقع أثرا لكن ما قدر قوة ذلك الأثر لتلك الكلمات بالرسالة مقارنةً بأثرها لو لُحنت تلك الكلمات وصُحبت بموسيقى أو شُخصت تلك الكلمات كمسرحية، فغالباً سيكون وقعها أقوى.

فالفنون أقوى سبل الوصول للقلوب لأنها تخاطب الوعي واللاوعي عند البشر.. فالناس تتخاطب وتتواصل بالفنون فيما بينها بطريقة تختلف عن طرق تواصلها العادية الأخرى من كلام وغيرها.. فالفنان تكون بقلبه فكرة أو صورة لفكرة لا تتحدث بداخله بكلمات واضحة فيعبر عنها بشكل من أشكال الفن كلوحة مرسومة أو قطعة موسيقية ثم يتلقاها وعي شخص آخر، ويترجمها بداخله للفكرة التي أردها الفنان، ويتأثر بها وقد يحزن للحزن الذي فيها أو يبتسم ويتأمل للأمل الذي بها.

فالفن له سبيل في التخاطب الحسي بين البشر.. وكما يقول كونفوشيوس «فيلسوف صيني»: الصورة أفضل من ألف كلمة.

لذا من الأفضل لكل من استمتع بالفن سواء كان بصنعه وصياغته بنفسه أو تلقيه من صانعيه ألا يشعر بالخجل والذنب، بل بالعكس يجب على أن يشعر بالفخر ولممارسته لرقيه البشري.