بعثت لي قارئة عزيزة برزمة من الأسئلة المشروعة تتمحور جميعها حول قضية سيف العنصرية البتار، والذي يتوجه أول ما يتوجه للأنثى فيمارس عليها وأدا إن لم يكن ماديا فمعنويا ونفسيا، لا تستطيع معه الانفكاك من أصفاد العصبية المقيتة! وصلت القارئة لسن الثلاثين وحسب رسالتها تقدم لها العديد من الرجال الأكفاء، ورفضوا جميعا من والدها لأنهم خارج بنية العصبية العصماء! وبمرارة شديدة تتحدث عن صديقة لها طلقت ونبذت خارج بيت الزوجية رغم وجود أطفال، فقط لأن لها أخت تجرأت وتزوجت (خضيري)، لتعاقب الأخت على جريرة أختها! وتنفرط مسبحة تساؤلات القارئة: إلى متى تستمر العنصرية في قضية زواج الفتاة؟! وما رأي الدين في هذه القضية؟! لماذا لا تتزوج الفتاة من خضيري خلوق بدلا من البقاء رهينة للعنوسة، أو لقمة سائغة للانحراف، أو للبطالة التي تفتح فاها كل يوم لتلتهم طاقات الفتيات وآمالهم؟!
تتساءل أيضا هل من أسباب الخيانة الزوجية وحالات الطلاق المتفشية في المجتمع خضوع الفتاة والشاب لما تريده العصبية، واضعين رغباتهم ومشاعرهم وراء ظهورهم رهبة من الإخراج القسري من جنة العصبية؟ وهل للقبليين وأولاد الحمايل حظوة عند رب العالمين، وهل الفضائل والأخلاق الحميدة حكرا عليهم وحدهم؟!
المؤلم حقيقة أن تعاليم الدين نفسها والقائمة على المفاضلة بين الناس بالتقوى والعمل الصالح، والداعية إلى نبذ العصبية لم تستطع اجتثاث سمومها من الذهنية الجمعية، ولم تتمكن من القضاء على النعرات المتفشية في مجتمعنا كالنار في الهشيم! والأكثر إيلاما وفظاعة أن يشرعن تفريق زوجين على خلفية عدم الكفاءة في النسب امتثالا للعصبية المنتنة كما حدث في قضية فاطمة ومنصور وقضايا أخرى مماثلة!
تقوم بنية العصبية الأساس على النسب، والمرأة هي وقودها ومحركها، فبالمصاهرة تتعزز الأواصر العصبية وتقوى اللحمة العنصرية، لذا الويل للمرأة إذا ما رفعت لواء العصيان! والموجع أن لكل منطقة من مناطق المملكة مآسيها إذا ما تعلق الأمر بزواج البنات، فهذا أصيل وخضيري، وذاك سعودي وغير سعودي! بل تتوالد العصبية داخل ذاتها وتنقسم إلى فروع أصغر فأصغر، لتضع صولجان الامتيازات على رؤوس عوائل بعينها! وفي الحجاز مثلا كانت تمنع الفتاة المنتمية إلى أسرة ينحدر نسبها إلى آل بيت الرسول الكريم من الزواج خارج النسب الشريف حتى وقت قريب، وهذا التقليد المجحف مستمر حتى الآن في بعض الأسر!
تقوم العصبية أول ما تقوم على تنصيب نفسها على عرش الخير والفضائل، وقطعية صواب العصبة وسمو كيانها عن الخارج المختلف، لتفرض قطيعة جبرية مع الخارج الذي يمثل الشر وسوء الخلق وانعدام الفضائل، فقط لأنه لا ينتمي للعصبية! وهي أيضا تقدس ثوابتها المتمثلة في عاداتها وتقاليدها، لتعيد إنتاج الماضي وتعزز قوى ممانعة التغيير، وتغذي حالتها الثباتية رافضة الخضوع للدين أو لتحولات العصر أو أنظمة الدولة الحديثة!
والخطير أن الوطن يدفع الفاتورة الباهظة للعصبيات والعنصريات المكرسة للفرقة والتشرذم! يقول محمد أركون: العصبيات تقيم دولا، ولكنها لا تستطيع بناء أوطان!