كان للشيخ راشد الغنوشي موقف ناقد لـ«إخوان» مصر، في إطار نقد ذاتي داخلي، وقد أفصح عنه في اجتماع عقدته «الجماعة» للبحث في ما بعد إطاحة «حكم الإخوان» في مصر عام 2013. جرى تداول نص لورقته، وهو نفى صحته، لكنه أكد في تصريحاته لاحقاً استيعابه دروس الحدث المصري، ومنها أن الحصول على غالبية أو على النسبة الأكبر من مقاعد البرلمان يجب ألا تغري بأخذ كل السلطات أو بالحكم بمنطق الحزب الواحد، ومنها أيضاً أن على «حركة النهضة» السعي إلى التوافقية والتشاركية لأن ثنائية «السلطة والمعارضة» لا تصلح للحكم الانتقالي، مستخلصاً «أننا كبحنا شهواتنا وجماح أنفسنا» و«تجنبنا الوقوع في السيناريو المصري».

ليل الخامس والعشرين من يوليو الماضي خرج أنصار الحركة وكوادرها للقول بأن الرئيس قيس سعيد قام بـ«انقلاب» لم يذهبوا إلى حد وصفه بـ«العسكري»، لأنه ليس كذلك، وبدا أن قيادتها انخرطت في التحضير للنزول إلى الشارع ومواجهة «القرارات الاستثنائية غير الدستورية» التي اتخذها الرئيس، واعتبارها معطلة للمسار الديمقراطي إذ جمدت عمل البرلمان، كما أن إقالة رئيس الحكومة تنذر بعودة الحكم الفردي والاستبدادي. قبل ساعات من إعلان سعيد قراراته، محاطاً بالقيادات العسكرية والأمنية، كان حزب «النهضة» مر بأصعب الأوقات حين خرجت تظاهرات في معظم المدن تهاجم حكومة هشام المشيشي، «حكومته» كما كانت توصف، وضد الحركة نفسها، بل تهاجم مقارها وتحرق بعضاً منها، مستعيدة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، «نظامه» كما لمح سعيد من دون أن يسميه بقوله إن ثمة من أدار الحكومة والبرلمان كأنهما «ملكاً له».

على الأرجح كان المتظاهرون من أنصار الرئيس، وأشير مراراً إلى هويتهم هذه، فالأحزاب جميعاً تبرأت منهم، وهم واظبوا على الاحتجاج منذ مطلع السنة واصطدموا مراراً بأنصار «النهضة» الذين استعدوا، وفقاً لمخاوف جدية سادت مساء الأحد (25/07)، لمواجهتهم ورد الاعتبار للحركة. كانت تلك لحظة مناسبة ليحسم سعيد أمره، بعد شهور من الصراع مع «النهضة» على حكومة عين رئيسها لكن الأخير انقلب عليه. استند سعيد إلى الدستور، بشيء كثير من التصرف في تفسير صلاحياته المقننة، لكنه استند خصوصاً إلى كونه المرجع الأعلى للجيش بموجب الدستور. كان الراحل الباجي قائد السبسي، مهندس «التسوية» مع الغنوشي، مر في عاميه الأخيرين بسيناريو مشابه بعد ما انقلب عليه رئيس الحكومة يوسف الشاهد، بدعم من «النهضة».


معلوم أن «تسوية» السبسي والغنوشي تبلورت عام 2014 بموازاة حوار وطني استوجبه عدم استقرار حكم «الترويكا» الذي ساد الأعوام الأربعة بعد ثورة 2011 حين توجت الانتخابات الأولى «النهضة» كأكبر حزب في البلاد (89 مقعداً من أصل 217 في المجلس التأسيسي) واختصر العديد من المراجع أزمة 2013 بـ«هيمنة النهضة». لذلك أسفرت انتخابات 2014 عن تراجعه إلى 69 مقعداً في مجلس النواب، لكن تفكك الحزب المنافس («نداء تونس») مكن «النهضة» من البقاء كأقوى حزب، واستمر كذلك بعد انتخابات 2019 برغم تراجعه إلى 52 مقعداً، وقد تناقصت نسبة الأصوات المؤيدة له من 36.9% إلى 19.5%. وبعد ما شكل «نداء تونس» عنصر توازن سياسي وطني انتجت تشققاته فسيفساء البرلمان الحالي (20 حزباً) ولم تستطع الأحزاب الموصوفة بـ«الليبرالية» إعادة بناء ذلك التوازن، ما أعاد «النهضة» إلى لعبة الاستقواء والهيمنة التي لم يناوئها بوضوح سوى «الحزب الدستوري»، فيما ظل الرئيس سعيد بلا حزب أو تكتل برلماني يسانده.

قاعدة أساسية كان يُفترض أن يستخلصها «النهضة» من أزمات الحكم الثلاث التي كان فيها لاعباً مسبباً، وهي أن التيار الاجتماعي السائد في تونس لا يحبذ حكم الإسلاميين أو اختراقاتهم للدولة، وإن لم يرد إقصاءهم. هذا التيار حمل «النهضة» مسؤولية ظهور جماعات متطرفة اتخذت وجوده في الحكم مظلة لارتكاب هجمات إرهابية، وحمله أيضاً مسؤولية شلل الدولة وسط أزمات اقتصادية وصحية غير مسبوقة. على العكس، استخلصت الحركة أن ضعف القوى السياسية الأخرى وتشتتها يبرران مواصلتها السعي إلى السيطرة على الحكم، معتبرة ذلك حقاً لها كأي حزب سياسي، لكن الأحزاب الأخرى، أياً كان حجمها، تعتمد على مدنيتها وليس على دينها الذي هو دين جميع التونسيين، ولا تستمد قوتها من «إخوان» ليبيا المجاورة أو «إخوان» تركيا والأردن والمغرب والسودان والجزائر وسوريا الذين استفزهم أن يتعرض «إخوان» تونس لنكسة بعد ما كانوا يرون فيه النموذج الأنجح لاستخدام «الديمقراطية» وسيلة لتحقيق أهداف «الجماعة».

لم يكن لـ«النهضة» مرشح رئاسي، فاضطر لتأييد قيس سعيد، انطلاقاً من أنه قريب إليه، مبدئياً، وليس نقيضاً ليبرالياً، والأهم أن كونه بلا حزب منظم يبقيه ضعيفاً، وبالتالي معتمداً حكماً على الحزب الأقوى في البرلمان الذي تبوأ الغنوشي رئاسته. لكن «النهضة» أسقط حكومتي سعيد الأوليين وخطف الثالثة، وراح يمارس ما وصفه «نهضوي» سابق بـ«الحكم المطلق» ويسلط ألسنة كوادره المغردة بأقذع الأوصاف للرئيس، بل ضاعف ضغوطه عليه إلى حد أن رئيس مجلس شورى «النهضة» عبد الكريم الهاروني تجاهل معاناة الناس من تزايد تفشي الوباء وقسوة الأزمة الاقتصادية (لم تدفع الرواتب عشية عيد الأضحى) فهدد بضرورة دفع تعويضات المتضررين من انتهاكات النظام السابق يوم 25/07، ما ضاعف النقمة على الحركة.

كان تكليف الجيش الإشراف على إدارة الأزمة الصحية إرهاصاً أولياً لقرارات الرئيس سعيد التالية، التي استغلها لفتح ملفات الفساد والأموال المنهوبة، ولتصحيح ما اعتبره خللاً في الإدارات. وبرغم الحذر من غموض شخصه ونياته كان هناك تفهم دولي لخطواته وتحذير من المس بالحريات العامة. ولا شك أن عودة البرلمان إلى العمل بعد ثلاثة أسابيع، ما لم يمدد التجميد، ستكون مربكة وصعبة بالنسبة إلى «النهضة» إذا أراد مجدداً تحدي الرئيس، خصوصاً بعد ما شهد كيف أن تظاهرات الابتهاج بقرارات الرئيس فاقت، بشهادة المخضرمين، تلك التي أعقبت سقوط نظام بن علي.

عدا ذلك نقلت قرارات الرئيس الأزمة إلى داخل «النهضة» نفسه، فلم يكن هناك تفاعل مع رغبة الغنوشي في النزول إلى الشارع لمواجهة «الانقلاب»، ولا تجاوب من الأحزاب مع دعوته إلى «حوار وطني، ولا مع اقتراحه انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة. ما يريده «النهضويون» الآن هو أن يتنحى الغنوشي وربما يرضون بدور له في الجانب الدعوي الذي قررت الحركة فصله عن دورها السياسي (المؤتمر العاشر، مايو 2016) لكنه بقي حبراً على ورق.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»