في منهج الأدب العربي الذي كنا مطالبين بحفظه وتذوقه، ضمن المواد المقررة لطلاب معاهد المعلمين قبل أربعين عاماً، كان هناك نص شعري للشاعر العربي الكبير عمر أبو ريشة بعنوان "نسر" يقول مطلعه: أصبح السفح ملعباً للنسور... فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري، لملمي يا ذرى الجبال بقايا النسر... وارمي بها صدور العصور. إنه لم يعد يكحل جفن النجم تيهاً بريشه المنثور. ويختمها بقوله: أيها النسر هل أعود كما عدت أم السفح قد أمات شعوري؟
وقد كان النص مادة خصبة للتحليل والاستنطاق والتوصيف الدرامي بيننا وبين المعلم، والمساءلة حول توظيف النسر كوسيط تعبيري، واستجلابه في حوار تبادلي والتخفي القسري وراء ذلك الطائر الذي لا نحبه ونأنف من ذكره في مجتمعنا، حيث لايقع إلا على الجيف الكريهة والفرائس الميتة وبقايا الكائنات النافقة، وكنا نقول لأستاذنا بكل عفوية وفطرية ليته قال: أصبح السفح ملعباً للصقور، فكان معلمنا يشرح لنا نظرية التلقي وتراسل مفردات البيئة، وتعدد قراءات النص، وقد نقلتُ تلك الحادثة للشاعر العملاق أثناء زيارته لمدينة أبها، وإحيائه لأمسية شعرية بدعوة من نادي أبها الأدبي، فضحك دون أن يعلق وانشرح عندما علم أن شعره يدرّس في مناهجنا، وسألته على ضوء قراءاتي ومتابعتي له كواحد من أعظم شعراء العصر، هل صحيح ما يقال حول إتقانه عدة لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية وسواها من اللغات ودراسته لآداب هذه اللغات بنصوصها المباشرة بعيداً عن الترجمات المشوهة على حد تعبيره؟ فهز رأسه بالإيجاب، وقد أكد ذلك الأستاذ محمد إسماعيل دندي في دراسة معمقة ورصينة، كشفت بعض آراء أبي ريشة المستقلة وذوقه المتفرد والصادم، فلم يعبأ كثيراً بأقوال النقاد ولا بشهرة الشعراء وأسمائهم، ولذلك نراه يرفض كثيراً من المشهورين ويقدم عليهم آخرين مغمورين كقوله: "أستثقل ابن الرومي وأراه أشبه بمعلم في مدرسة تعلم القاصرين، وأضيق بالبحتري لأنه سطحي، وأعدّ المتنبي شاعر بيت من الطراز الأول، لكنه ليس شاعر قصيدة"، وكان يباهي بأن له مذهباً خاصاً في الشعر حيث يقول: "أرسيت مذهبي على أساسين وحدة القصيدة وطرافة الفكرة، أما وحدة القصيدة فتعني أن البيت الواحد في نظري حجر من بناء، وأن الحجر الواحد لا يصنع بيتاً، لهذا أربط مطلع القصيدة بآخرها ربطاً فنياً إذ أفرغ طاقتي الفنية والفكرية في البيت الأخير، ولا أنفح السامع بهذا البيت حتى أمهد ذهنه لقبوله وأثير فيه الشوق إليه، فمتى آنست من الأذن الإصغاء قذفت فيها صاعقتي، فهيمنت عليه هيمنة الساحر الخبير بالنفوس البشرية".