يروى أن صلاح الدين الأيوبي كان قد جعل على باب دمشق ميزابين يصب أحدهما الحليب ويصب الآخر ماء مذابا فيه شيء من السكر وجعله للأمهات يأخذن منه مرتين في الأسبوع مايحتجنه من الحليب والسكر لأطفالهن. ويروى أنه في زمن نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي خصصت وظائف في البيمارستانات (المستشفيات) للمتطوعين يزورون المرضى ويتحدثون أمامهم بصوت خافت عن تحسن حالتهم الصحية لمساعدتهم في العلاج، وكانت هنالك نفقة للخيول المتقاعدة من المعارك، وكذلك كان هنالك مشفى (بيمارستان) متخصصا للعناية بالقطط العمياء وآخر للعناية بالكلاب الضالة. وفي مجال التعليم ما زالت المدرسة النورية المتاخمة للمسجد الأموي في دمشق تخرج حافظات الحديث النبوي (البخاري ومسلم) بالسند حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا غيض من فيض ما نقرأ من روايات لطيفة عن خدمات كانت تقدم في المجال التعليمي والمجال الصحي في عهد نور الدين زنكي وعهد صلاح الدين الأيوبي. هذه الروايات ليست مبالغات أفلاطونية أوقصصا من وحي الخيال ونسج التعظيم والتفخيم لبطلين حقيقين بأعظم نياشين البطولة في تاريخنا الإسلامي، فشواهد بعض هذه الروايات لا تزال قائمة حتى الآن.
إن كان من فضل لشيء ـ بعد الله سبحانه ـ لأن يشمل تاريخنا مظاهر للرفاهية العامة مثل التي ذكرت، فإن الفضل يعود للأوقاف، ذلك المبدأ الاقتصادي العظيم الذي لا أظن أن التاريخ شهد مبدأ اقتصاديا مثله يوفر الخير والرفاه وديمومة الاستقرار وعدالة التوزيع للثروات.
ينسب عدد من المؤرخين التطور الذي عاشته الأمة الإسلامية في المجالين العلمي والصحي للأوقاف التي أنفقت بإغداق عليهما حتى وصلا إلى ما وصلا إليه في قمة تاريخنا الذي تهالك وتقهقر عندما تهالكت وتقهقرت الأوقاف. وقد سبق الوقف الإسلامي غيره من المفاهيم الوقفية لدى الحضارات الأخرى، كونه أقيم على أسس اجتماعية وخدماتية كان الهدف فيها التركيز على تقديم الخدمة وتطويرالمجتمع، ولم يكن التركيز فيها كما هو الحال الآن في بعض النظم الاقتصادية على العائد الضريبي الفردي.
اتساقا مع أصالة هذا المبدأ الاقتصادي الجميل وابتكاريته تفنن الفقهاء في توصيف أحكامه والإجابة على ما يتعلق بنوازله وفق القائم في عصورهم والمفاهيم السائدة حينها، وأصالة هذه الأعمال الفقهية قدمت لنا آراء علمية ممتازة ينبغي ألا نلتفت عنها أو أن نغفلها ونحن نتعامل مع الأوقاف اليوم، خصوصا أننا أمام العالم أجمع ما زلنا نمثل المرجع الأول لهذه القيم لارتباطنا بالحرمين ولامتلاك المملكة على المستوى الأهلي والمستوى الحكومي لثروات مالية طائلة يرغب أصحابها في تحويل أجزاء منها لأوقاف تضمن لذريتهم الدخل جيلا بعد جيل وتشعرهم بالمساهمة الاجتماعية دون ضياع للأصول.
إن التعامل اليوم مع الأوقاف واستثماراتها بعقلية منفتحة تركز على الجوانب المقاصدية للنصوص الشرعية ولا تأسر نفسها في مصطلحات فقهية واصفة، سيعزز من قدرتها على أداء دورها الاجتماعي بامتياز، وقد نجدها تحل في فترة زمنية قصيرة نسبية محل عدد من البرامج الحكومية الخدماتية التي أثقلت كاهل الدولة، مثل برامج الإسكان وتحلية المياه وإنتاج الكهرباء ورفع مستوى الخدمات الصحية، بل وتحل محل ما يعرف بـ"الدعم الاقتصادي" لبعض القطاعات والأعمال الضرورية.
ولهذا فإننا بحاجة لأن نعود لسالف مجدنا وقديم عهدنا بالابتكارية والتجددية الفكرية لنستوعب الهياكل والنظم الاستثمارية والقانونية والإدارية الحديثة، والانتقال إليها مبتعدين عن بعض الصور التقليدية للوقف التي لعل أشهرها وقف العقار بحيث يدر دخله على مستفيدين معينين على وجه الخصوص أو على وجه العموم.
العارفون بعالم الاستثمار وأهمية الأوقاف اليوم يرون كثيرا من الصور الاستثمارية المتاحة التي يمكن أن تفيد منها الأوقاف، بحيث تؤدي دورها المستهدف وفقا لشرط الواقف ورغبته، إلا أن هذه الصورالاستثمارية باعتبار أنها ليست من الصور المطروقة تبقى تراوح في بعض الأحيان محلها خوفا من التباين مع الجوانب النظامية أوالأحكام القضائية.
في الوقت الذي ينظر في مجلس الشورى تنظيم الهيئة العامة للأوقاف، فإنني أدعو من خلال هذا المقال لأن تبادر الدولة في وضع نظام شامل يؤطر للوقف وأحكامه وارتباطاته بالأنظمة الأخرى، مثل نظام الشركات والسوق المالية والمعاملات البنكية، وكذلك آليات نظر القضاء للمعاملات الوقفية وتفعيل دور وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والدعوة والإرشاد في القيام بالإحصائيات وتقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة في هذا الباب لنرتقي بمجال الوقف إلى المستوى المأمول، ونعيد شيئا من ذكرى أبطال كنا نظن أن بطولتهم كانت في ساحة المعركة فقط، ونسينا أن تفرغهم للمعركة جاء نتاجا لفراغهم من الهم الاجتماعي الذي حملته نيابة عنهم تلك الأوقاف المبتكرة.
تغريدة: كم أبغض الأصبع السبابة! إنها طويلة بشكل كاف لأن نعلق عليها أخطاءنا ثم نرمي بها تجاه الغير لنرتاح.