وللمصادفة العجيبة أنها توفيت في ذات تاريخ اليوم الذي كان الأديب قد كتب لها فيه رسالة أدبية ذاتية اتسمت بالبلاغة وقوة الكلمة أباح فيها بما في وجدانه من أحاسيس وأشجان قائلًا:
«ابنتي ابتسام....
لقد تعود الناس أن يقدموا لإنتاجهم بما يرتبط وهذا الإنتاج، وأما أنا فقد آثرت أن أتوجه إليك بكلمة مقتضبة أهمس بها في أذنك، كلمة أبين فيها الدور الذي لعبته في حياتي الطويلة الحفيلة بالكفاح.
ولقد أديته بإتقان، ولكن فصول الرواية لم تنته بعد ما دام في العمر بقية، ودورك لا يزال مكانه، وستؤدينه بنفس القوة والنجاح.
والرواية هذه هي قصة كفاح أبيك، فقد كان شابا يحمل نفسًا طموحًا تريد أن تثبت وجودها في الحياة.. كعضو عامل في المجتمع.
ولكنه كان يعيش بين كوارث تلاقت أطرافها حول هذه النفس الطموح، فبدلًا من أن تثبط عزمها، وتحد من نشاطها جعلتها أقدر على مجالدة الحياة.. ومصابرة ما تأتي به الليالي، والليالي من الزمان حبالى كما قال الشاعر..
فقد جاءتني بالمصائب تترى لتقوض عودي.. فزادتني صلابة.. حتى كان مساء يوم تدجى بياضه في نظري بما يحيط بي من كوارث أبسطها فقدان والديَّ في أيام متقاربة، وإصابة بصري بمرض كاد يعشيني، في أيام كنت فيها أردد دائمًا:
حنانيك يا دهر فحسبي مكائد وحسبي من شباب من مآسيك راكد
وحسبي أني ما قضيت لبانتي من العمل حتى ضاع العمر واحد
متى راح منه الحول خلَّف حسرة فلا هو مرتد ولا هو عائد
ولم أكن وحدي آنذاك في مفترق الطرق أعاني ما أعاني.. بل كانت معي شريكة حياتي، ورفيقتي في الكفاح والدتك يرحمها الله.. التي كانت أقدر مني على احتمال الكارثة متى ثار إعصارها.. لم أكن أعتز بقدرتها هذه وحدها بل كانت فوق ذلك المشجع الذي يدفعني إلى السير كلما تعثرت بي الخطى، وهصرني الألم، وعصفت بي الشجون... في تلك الظروف السيئة التي كنا نعيشها معًا شجعتني على الاغتراب وأنا خلو الوفاض، زادي الأمل، وشراعي الصبر، واعتمادي على الله الذي يكفل الرزق ويمنح السراء ويكشف الضراء..
فغادرت الوطن وتركتها وفي يدها أختاك وأخوك، وأنت في أحشائها لم تصافحي النور بعد، وغبت شهورا بلغ فيها بي اليأس منتهاه، فكتبت إليها من مصر أشرح لها فيها ما أعانيه.. وأترك لها حرية تسمية المولود حتى وضعته وأنا ما أزال في الغربة.
وفعلًا تسلمت الرسالة بعد أن وضعت المولود بأربعة أيام، وبكت من أجلي طويلًا، وحررتْ لي جوابًا تقول فيه: «ابتسم للحياة، وإننا في مقتبل العمر، وقد صافحت ابتسام الحياة فعلًا بالمولودة التي وضعتها» هذه المولودة هي أنت يا ابنتي الحبيبة!!
ولكن لم أكد أعود إلى الوطن وفي يدي ديواني الأول أحلام الربيع حتى وجدتها تقاوم العلة، وتصارع الداء، وشاء القدر أن يقول كلمته فافترستها يد المنون، وقد تخطيت الحول الأول من عمرك المديد إن شاء الله بأيام معدودات، ومن يومها وأنا أردد كلما تذكرتها..
هي في أكفانها نائمة وأنا الساهر وحدي للأنين
لو تقاسمنا الردى من يومها كنت في قبري بين النائمين
ولا يكاد يقع بصري عليك، وأنا في مفترق الطريق.. حتى أسمع صدى صوتها الناعم النغوم، وهو يدغدغ إحساسي ومشاعري ووجداني بعبارتها «ابتسم للحياة»
ولقد تفًّتحت كالوردة في أحضان حياة مريرة قوضت كيان الأسرة، وبعد أن ابتسم فيك الربيع – قذفت بي وإياك في أتون من المآسي.. فكان عزائي ابتسامتك الرقيقة البريئة، هذه الابتسامة التي أعيشها في ظلال معناها وكانت رفيقي في غربتي، الرفيق الذي ضمد جراحي وحمل عني الكثير من العبء وصبر وصابر، وهيأ لي الجو السعيد الذي كتبت فيه هذه الصفحات..
فإليه أهديها.. تحية من أب، ودعاءً صادقًا صادرًا من الأعماق أن تظلله السعادة الوارفة، ويشمله رضاء الله، ويكتب له التوفيق.
طاهر عبد الرحمن زمخشري
القاهرة 9 يوليو 1963م
18 صفر 1383هـ».
لقد لخصت تلك الرسالة التي وضعها الأديب في مقدمة ديوانه «عودة الغريب» جانب من سيرته الذاتية المرتبطة بزوجته، وابنته «ابتسام» التي كان لها دورًا مهمًا في حياته، واحتفظت في ذاكرتها بالكثير من قصصه وذكرياته التي رواها لها أو عاصرتها إبان حياتها معه، ومنها ما نقلته لي عن قصة قصيدة «إلى المروتين» التي لحنها وغناها الموسيقار طارق عبدالحكيم، وكانت صحيفة «الوطن» نشرت تلك القصة ضمن مقالها «سبط الزمخشري يكشف زخم الحج في شعر جده» في عددها 6540 الصادر بتاريخ 26 أغسطس 2018، واكتسبت منه ثقافتها وميولها الأدبية بمرافقتها له منذ نعومة أظافرها، إذ كتبت مجموعة من القصائد والخواطر النثرية جمعتها على مدى السنين وكانت بصدد نشرها لولا حيلولة ظروفها الصحية دون إنجاز ذلك المشروع. وبرحيلها طويت صفحة أحد المصادر المهمة عن حياة الأديب.
وقد وريت الفقيدة الثرى بمقبرة ذهبان شمال محافظة جدة، تاركة وراءها 4 من الأبناء وابنة من الرضاع، و11 حفيدًا ذكور وإناث. وشقيقتها التي تكبرها وذلك بعد وفاة كل من شقيقها فؤاد ثم كبرى أخواتها سميرة.
فرحمهم الله جميعًا رحمة واسعة وجمعهم في جنات النعيم.