وقد أسس العتيبي ملاحظته على أدلة ملموسة ليس هنا مجال تفصيلها. ما أريد اليوم مناقشته هو فكرة دقيقة هي:
هل قام الإخوان فعلا بمراجعات فكرية وسياسية حقيقية تؤهلهم ليكونوا طرفا سياسيا مقبولا في الدول والمجتمعات العربية؟
قبل سنوات، كتب يوسف القرضاوي، وهو من آخر شخصيات الجيل الأول من الإخوان المصريين كتابات منشورة حول ما سماه «ترشيد الصحوة الإسلامية» وهو يعني مواجهة انحرافات، وغلو الجماعات الإسلامية ودعوتها إلى الاعتدال والوسطية.
وقد طرح القرضاوي مبادئ من بينها العقلانية والتيسير والاجتهاد والتجديد والتسامح والاعتدال... إلا أن هذه المنطلقات التي تبنتها قيادة جماعة الإخوان لم تؤد إلى تغيير جوهري في تفكير الإخوان وممارستهم السياسية.
لقد سمحت هذه المنطلقات لهم بالتحالف البراجماتي مع الأحزاب والتيارات الأخرى في بعض المناسبات، وذهب بعضهم إلى التصدي للحوار مع القوميين العرب في إطار الاستراتيجية التي عرفت بالحوار القومي الإسلامي.
كما أن حزب العدالة والتنمية التركي الذي له خلفيات إخوانية، رفع أول وصوله للسلطة شعار الليبرالية المحافظة والتخلي عن الأيديولوجيا الدينية، وتبنى حزب النهضة الإخواني في تونس مبدأ الفصل بين الدعوة والسياسة.
إلا أن المشروع الإخواني ظل كما هو في أفكاره ومواقفه النظرية والسياسية. يمكن أن نجمل هذه المنطلقات في أربع أفكار أساسية هي:
القول بأن الإسلام دين ودولة.
الدعوة إلى تطبيق الشريعة باعتبارها القانون الإسلامي.
النظر إلى المجتمعات المعاصرة بأنها مجتمعات جاهلة تخلت عن الدين والعقيدة.
الفصل بين الديمقراطية من حيث إنها آلية انتخابية والمرجعية الليبرالية التي تقوم عليها.
قد تختلف الأحزاب والتنظيمات والشخصيات في نمط التعبير عن هذه الأفكار الأربعة، لكنها في الحقيقة موضوع إجماع حقيقي لا يمكن إنكاره.
سنقف باختصار عند هذه الأفكار الأربعة لتحليلها ومناقشتها في هذا المقال، والمقال الذي يليه.
أما اعتبار الإسلام دينا ودولة فقد ناقشناه من قبل، وبينا أنه خطأ في فهم الإمامة الشرعية والولاية الدينية. ما أريد أن أضيفه هنا هو أن بعض الإسلاميين يتخفى وراء فكرة المرجعية الإسلامية الحضارية في السياسة لتجنب صيغة وحدة الدين والسياسة في الإسلام (بما هو واضح مثلا في كتاب راشد الغنوشي الحريات العامة في الإسلام). إلا أن هذا الموقف الملتبس لا يختلف في العمق عن كتابات حسن البنا وعبدالقادر عودة والمودودي، ما دام يرى أن للإسلام مشروعا سياسيا على غرار فكرة الأيديولوجيا الدينية التي طرحها الكاتب الإيراني علي شريعتي.
لقد ذهب بعض الإسلاميين الذين يدعون بالمعتدلين إلى التمييز بين العلمانية الشاملة التي ترفض كليا الدين والعلمانية الجزئية التي تكتفي بالفصل بين الدين والدولة (أطروحة عبدالوهاب المسيري)، إلا أن هذا التمييز يقوم على خلط أصلي بين الدين والسياسة.
الدين مرجعية عقدية وأخلاقية مطلقة جامعة لكل المؤمنين، والسياسة هي مجال المصالح والاعتبارات العامة، وكل بناء سياسي يدعي الشرعية الدينية لا بد أن يؤدي إلى التمييز والإلغاء واحتمال العقيدة الصحيحة. ومن هنا خطورة شعار الدين والدولة، كما أثبتت التجربة العملية لكونه فتح باب التكفير والتطرف والعنف.
للحديث بقية...