«شعرة معاوية، قميص عثمان، حديث خرافة، جزاء سنمار، مواعيد عرقوب، مزامير داود، سحر هاروت، غراب نوح، برد العجوز، سحابة صيف.. الخ». تعبيرات «أوجزت اللفظ وأشبعت المعنى». ورغم أن الكثير من مثل هذه التعبيرات المسكوكة لا يزال حيّاً، فإن مبناها ومعناها، ربما كان خافياً أو غامضاً لدى الأجيال الشابّة، التي كادت الصلة بينها وبين تراثها تنقطع. ومن هذه المسكوكات أو التعابير المسكوكة:
* «جزاء سنمار»،يُضرب به المثل للمحسن يكافأ بالإساءة، حيث كان سنمار الرومي مشهوراً ببناء الحصون والقصور للملوك، فبنى قصر الخورنق في الكوفة، على نهر الفرات، للنعمان بن امرئ القيس، فلما فرغ منه بعد عشرين عاماً، صعده النعمان - وهو معه - فأعجبه حسن البناء وطيب موضعه، وأوهمه بحسن المكافأة، حتى إذا ما اطمأن سنمار إلى ذلك، أمر النعمان به فرمي من أعلى البنيان، فتقطع. فعل النعمان ذلك بسنمار خشية أن يبني مثله لغيره!.
* «مواعيد عرقوب»، يُضرب المثل في الكذب وخلف المواعيد، وعرقوب رجل من خيبر، أتاه أخوه يسأله المساعدة، فقال له عرقوب: إذا أطلعت النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتاه للوفاء بالوعد، فقال له: دعها حتى تبلح، فلما أبلحت أتاه، فقال له: دعها حتى تزهي «يصبح لون البلح أحمر أو أصفر»، فلما زهت أتاه، فقال: دعها حتى ترطب «يصبح البلح رطبا» فلما أرطبت أتاه، قال: دعها حتى تثمر، فلما أثمرت سرى إليها عرقوب ليلا، فجنى ثمارها، ولم يُعط أخاه شيئاً، فسارت مواعـيده الكـاذبة مـثلاً سائراً في عدم الوفاء بالمواعيد.
*«حديث خرافة»، ذكر الثعالبي في ثمار القلوب أن «خرافة» بطل هذه العبارة المثلية هو رجل من بني عذرة، استهوته الجن، فأسرته، فمكث فيهم دهراً، فلما تركته وخلت عنه رجع إلى قومه، فكان يحدث الناس بالأعاجيب من أحاديث الجن، وبالغرائب من مشاهداته في عالمهم، وقد شك العرب في قوله، فكانوا إذا سمعوا حديثا عجيباً أو غريباً لا أصل له ولا برهان عليه، قالوا: «حديث خرافة» نسبة إليه، وضربه ابن الزبعري، مثلاً، في الكفر بالبعث حين قال:
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
ثم كثر هذا في كلام العرب، حتى قيل للأباطيل خرافات، وللترهات أحاديث خرافية.
* «غراب نوح»، تُضرب مثلاً للرسول الذي لا يعود، أو يُبطئ عن ذي الحاجة من غير إنجاح. وذلك أن نوحاً - عليه السلام - أرسل الغراب من سفينته ليأتيه بخبر البر، بعد أن توقف الطوفان وتطهّرت الأرض، فوجد جيفة فاشتغل بها ولم يعد إلى نوح، فأرسل مكانه الحمامة، وقد غضب منه، وعندئذ دعا عليه بسواد اللون، بعد أن كان لونه أبيض - كما في المعاجم اللغوية - وتشاءم منه العرب، لغدره بالنبي نوح. «وعرفته العامة باسم: الغراب النوحي».
*«غراب البين»، قال الجاحظ: غراب البين نوعان: أحدهما غربان صغار معروفة بالخبث واللؤم والضعف، والآخر كل غراب يُتشاءم به، وإنما لزمه هذا الاسم، لأن الغراب إذا بان «رحل» أهل الدار وقع في بيوتهم يلتمس ما تركوا، فتشاءموا به، وتطيّروا منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا «رحلوا منها» فسمّوه غراب البين، واشتقّوا من اسمه الغربة والاغتراب.
*«عنقاء مُغرب»، قال الجاحظ: الأمم كلها تضرب المثل بالعنقاء «طائر خرافي» في الشيء الذي يُسمع به ولا يُرى، وإن كانوا يرون صورة العنقاء مصوّرة في بُسط الملوك وحيطان قصورهم، والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيء وبطلانه قالت: حلّقت به في الجو عنقاء مُغرب.