بعد صلاة الجمعة وفي أول يوم من الأشهر الحُرُم، وفي الجمعة والأشهر الحرم ما فيهما من خصائص مباركة، تلقيت خبر وفاة والدتي رحمها الله متأثرة بثلاث، التهاب حاد في الصدر، هبوط حاد في الدورة الدموية، وجلطة.

كان هذا هو الصراع الأخير الذي استسلمت له وأسلمت روحها لبارئها. نعم فقد كانت مصارعة للحياة منذ صغرها، كغيرها من بنات جيلها، فهي الفلاحة الماهرة في بلاد زوجها الكثيرة والمترامية الأطراف.

ورغم ما يوحي به هذا من ترف المحاصيل، غير أن شقاء أفراد الأسرة حينذاك يصعب وصفه، سيما الأسرة التي تملك بلادا زراعية كبيرة في زمن لا يعرف أهله الآلة الحديثة. فالأعمال كلها «يدوية» ووسيلة النقل «قدمية»، بالأقدام، حيث تشارك المرأة كل التفاصيل اليومية بجانب الرجل وربما أكثر.


ولماذا أكثر، لأن المرأة حينذاك لديها مهام متعددة قد تفوق الرجل المنصب عمله على «رأس المال» وهي البلاد. فبجانب مساندة المرأة لزوجها في أعمال الفلاحة فلديها مهام الاحتطاب والرعي وجلب الماء من الآبار والعيون في القِربة، تحملها على ظهرها في ممرات صخرية وعرة، علاوة على أعمال البيت من طحن الحبوب يدوياً بالرحاء، وحلب المواشي وخض منتجاتها، وتجهيز الطعام من خلال نار التنور أو الموقد الحجري، وتزيين البيت حتى أنها هي من تقوم بالدهان الداخلي المزخرف.

يزداد الأمر سوءاً على المرأة حينما يلتحق «بعلها» بالعمل النظامي، وتصبح كل المهام على المرأة وهذا ما حصل لكثير من الأمهات حينذاك. وهنا يتطلب منها صفات القوة والشجاعة والصبر، ليس في مواجهة المهام اليومية فحسب، بل في مواجهة الكوارث العديدة على البلاد والحلال والأطفال.

كوارث السيول الجارفة التي تفسد البلاد والزروع وتهدم البيوت، وكوارث السباع التي تلتهم الماشية، وكوارث الأوبئة التي تعصف بالقرى فتهلك الأطفال.

هنا تتجلى «المرأة الحديدية» فهي مستيقظة لتلك الكوارث الطبيعية ليل نهار، مع مواجهة الكوارث غير الطبيعية المتمثلة في الوحوش البشرية، التي تترقب غفلة الراعي لسرقة ما تيسر من المواشي أو الاعتداء على أجزاء من البلاد، أو تحويل مساقيها وهذه من أعتى المعارك على الرجال، فكيف بالنساء المكلفات بكل تلك المسؤوليات!>

في تلك المرحلة، كانت المرأة تجمع بين صفات الأنوثة والرجولة. فهي الأنثى الولود والودود لزوجها وأطفالها، ولهذا توارث المجتمع منهن ألطف عبارات التودد والعاطفة، والفداء لأهلها وزوجها وأفراد أسرها مثل «يطعني عنك/ أخذت ضيمك/ بروحي عنك/ خذاني موتك...».

هي المرأة «الودودية» والحديدية كما سلف، علاوة على صفات الحكمة والدهاء والمنطق والعقل المدبر. لقد اكتسبت الوالدة غفر الله لها تلك الصفات وأكثر، لتفردها في جانبين اثنين، نسبها وأنسابها فنسبها من شيوخ بلّسمر وأنسابها من شيوخ بلّحمر. ومع أن قسوة الحياة تعلّم القسوة، إلا أن أمهاتنا المخضرمات كن يحملن قلوبا كالجنان، وبراكين عواطف يحشدنها في أحشائهن لمن يستحقها، من أهل وصديقات وجارات مخلصات.

لقد كانت في أثناء مرضها وفقدها للوعي تذكر أسماء نساء، فأسألها عن بعضهن ليتضح أنهن جارات وصديقات سابقات انقطع بهن الوصل ولم ينقطع الوفاء. وإلى كل من تجرّع مرارة رحيل أمه، سلام على قلبك اليتيم. رحم الله أمواتنا وأمواتكم جميعا إنه سميع مجيب..