لم يكن الصديق الأنيق، محمد آل زلفة، يرسم في كتابه الأخير (سيرة حياة) العقد الأول من طفولته قدر ما كان يحاول إعادة مقاطع ألبوم ضاع وتلاشى لآخر مئة عام من تفاصيل مجتمع. تقرؤوه ثم تتساءل عن هذا التسارع المخيف الذي يجعل المرء من بيننا يقرأ ملامح طفولته الخاصة، أهله وقريته ومجتمعه، وكأنه يقرأ لطفولة وأهل وقرى لم ولا تعود ليومه من بعض أمسه بصلة.

نذرت على نفسي في العام الأخير أن أقرأ وأكمل عشرة كتب – أياً تكون – في الشهر الواحد. وأجزم في حياتي أنني وقعت على عشرات آلاف العناوين وقلبت آلاف الأوراق، ولعلها المرة الأولى في كل حياتي، التي أقرأ فيها البارحة تفاصيل جسدي ورائحة فراشي القديم وملامح ملابسي الصفراء الباهتة. أدغال قريتي في وجوه مئات القرويين القدامى الذين سجلهم بيراعه المثير في تفاصيل رحلة. هي المرة الأولى التي يقرأ فيها المرء نفسه. لقد أخذني أبو خالد إلى تراتيل ساحرة من الحزن وأنا المكتئب الحزين أصلاً، فلم أعد أحتمل جرعة جديدة في – عام – تقف فيه نفسي على كل مفارق اليأس والإحباط ووطأة آلام الزمن وقسوة الظروف المختلفة. ظننت كتابه هداية إلى شيء من النور والفرح فإذا به يكمل من الذكريات ما كان حمماً على نفس لم يكوها شيء بأكثر من دموع الذكرى على كل ما يرحل.

لماذا كان محمد بن زلفة طلائعياً تنويرياً بالفطرة؟، فلأن هذه القرى يوم تكوينه الأول كانت مثله – تطلع إلى النور – لتسحب الشمس من مرقدها برهة قبل الفجر الساطع. كانت هذه القرى الجبلية الساحرة توسع دائرة النهار بشيء من أطراف الليل تسرقه من الغسق والشفق.

لماذا كان محمد بن زلفة نصيراً للمستضعفين والنساء؟، فلأن كتابه امتلأ بعشرات الأسماء من نساء تلك القرى، والواحدة منهن كانت بقيمة – الفضة – التي تحملها شيمة و- رُجْلة – ومروءة وطهارة وعفة يوم كانت المرأة شريكة حقل ورعي ومحجر ونوب بئر ووفادة ضيف و(رفدة) صديق أو نسيب. لأنه اليتيم الذي رُبِّي كنبتة ثائرة على صخرة – أمه – لا لأنها ابنة شيخ القبيلة الضخم، بل لأنها هي نفسها صخرة بين عشرات الأحجار المتناثرة: نساءٌ هن شرف القبيلة. هو مع المرأة يظن أنه سيستعيد أنموذج أمه.

لماذا كان محمد بن زلفة وصمة ليبرالية مثيرة للجدل، رغم أنه المتدين الطبيعي لمن يقترب منه؟، فذاك لأنه تربى على إيمان الفلاح الذي يجدول نهاره المضني وليله المتهلهل على مواعيد الصلاة.

لم يكن الدين في حياة هذه القرى مأسسة ولا مؤسسة ولا وعظاً أو وظيفة بأجرة الساعة. لماذا كان محمد بن زلفة نسخة مختلفة في آرائه التي يصدح بها بشجاعة لافتة؟، فذاك لأنه يحاول استعادة نسخة المجتمع الأول له الذي كان أكثر وعياً وأسطع نوراً وأكثف عملاً وأقل ثرثرة مما نحن به اليوم.. بكل اختصار لأنه تكوين عقد حياته الأول.