في الوقت الراهن يعد مفهوم العلمانية، بما يخلقه من علاقة جدلية بين الدين والمجتمعات البشرية، من أكثر المفاهيم إثارة للجدل وساحة مشتعلة للأخذ والرد. وما يجعله مثيرًا للجدل في الحقيقة هو عجزنا عن منحه تعريفًا واضحًا ومحددًا يعطيه القدرة على تفسير العلاقة الجدلية بين الدين والمجتمع، فالدين والسياسة مثلا، مهما بلغا من التنافر فإنهما سيلتقيان لا محالة في بوتقة المجتمع حتى في أشد المجتمعات علمانية كالمجتمع الفرنسي، وهنا يكمن مصدر الإشكال. إضافة لإشكالية تعريف المصطلح فهناك إشكالية الأصل والمنشأ، فالعلمانية قد تطورت في حقبة تاريخية وثقافية محددة، في المجتمع الأوروبي، بين القرن السابع عشر والتاسع عشر الميلادي، وتأثرت بشدة باللاهوت المسيحي والفلسفة المسيحية، ويرى كثير من الباحثين أن نشوء العلمانية بصفتها طريقة لتنظيم العلاقة بين الدين والمجتمع ما كان لها أن توجد بدون تأثير الفكر المسيحي. فالعلمانية بصفتها موروث مسيحي هل يمكن أن نطبقها بكل ملابساتها وظروفها التاريخية في ثقافات مختلفة؟

يصف الباحث الفرنسي أوليفييه روا العلمانية بأنها خصوصية فرنسية. فالعلمانية في فرنسا ترتبط بسياق تاريخي واجتماعي محدد عنوانه النزاع بل العداء بين الجمهورية ورجال الإكليروس، فقد كان العدو الأول للعلمانية الفرنسية هو الكنيسة الكاثوليكية ولكن اليوم حل الإسلام محل الكاثوليكية كهاجس جديد يثير قلق السلطات في الأراضي الفرنسية. فالعلمانية الفرنسية بعد أن وضعت الكنيسة على هامش المجتمع اقتصر دورها في مواجهة الدين الإسلامي بصفته دين المهاجرين الجدد والأقلية المسلمة في المجتمع الفرنسي.

ولكن هل استطاعت العلمانية الفرنسية تحييد دور الإسلام في حياة المهاجرين واستبعاد كل ما هو غيبي من الحياة الاجتماعية، حتى لو مارست شتى أصناف الإكراهات والقيود النفسية وعملت على سجنهم داخل موروثاتهم الدينية أو إجبارهم على التخلي عن اعتقاداتهم الدينية كما قامت فعليًّا بمنع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب أو منع المهاجرين من ممارسة العبادات في الأماكن العامة؟ وهذه الإكراهات بلا شك تتنافى مع روح التعددية الثقافية ومع أبسط مبادئ التسامح الديني.


ففي قلب المجتمعات الأوروبية ظل الدين الإسلامي قادرًا على توجيه سلوك أتباعه دون الحاجة لوجود وسيط أو مؤسسة تنظم هذا السلوك، فقد خرج المهاجرين من ثقافتهم الأم وانخرطوا ثقافيًّا في المجتمع الجديد، واستطاعوا أن يكيفوا معتقداتهم الدينية في الثقافة الجديدة دون أن تفقد خصائصها الأولية، وإعادة التكييف هذه لم تتم بواسطة فقهاء أو فلاسفة أو مفكرين بل بواسطة مهاجرين بسطاء، هدفهم من الهجرة هو البحث عن مصادر الرزق والعيش.

النصوص الدينية كالقرآن الكريم والسنة النبوية هي الموجه الأبرز والتي تمكن الدين الإسلامي من أن يكون له أثر حاسم في الحياة الاجتماعية عند المسلمين، فالعلاقة بين الله والإنسان في الدين الإسلامي علاقة مباشرة لا تتطلب وجود وسطاء، لذلك وجدت العلمانية الفرنسية نفسها في مأزق معرفي لأن تجربتها مع الكنيسة الكاثوليكية قامت على أساس أن الكنيسة كانت تلعب دور الوسيط بين أفراد المجتمع وبين الرب، والدين الإسلامي لا يوجد فيه أي مؤسسة دينية وسيطة بل هو يشتغل ويؤثر عبر مجالات وفضاءات مختلفة تماما عن اشتغال الكنيسة الكاثوليكية، يقول الباحث السياسي الفرنسي أوليفييه روا متحدثًا عن هذه الإِشكالية التي جعلت الإسلام ممتنعًا عن أي شكل من أشكال العلمنة في المجتمع الفرنسي: «هل المشكلة في الإسلام خاصة أم الأديان عامة؟ بعبارة أخرى، هل أسهمت المسيحية في إرساء النظام العلماني والسياسي الحالي حتى وإن وضعت الكنيسة على الهامش، في حين أن الإسلام ممتنع جوهريا على كل شكل من أشكال العلمنة؟».

هذه الإشكالية التي تواجه مفهوم العلمانية مع الدين الإسلامي جعلت مفكرًا كبيرًا ومهمًا في الساحة الفكرية العربية كمحمد عابد الجابري ينادي بضرورة استبعاد شعار «العلمانية» من قاموس الفكر العربي، حيث إن مضمون هذا الشعار -حسب الجابري- «مرتبط بظاهرة دينية حضارية لا وجود لها في التجربة الحضارية العربية الإسلامية. فظاهرة الكنيسة بصفتها مؤسسة أو جهازًا تراتبيًا ينتظم فيه الكاهن أو رجل الدين المسيحي في سلك الكهنوت الكنسي، ليس لها وجود مماثل في الدين الإسلامي كما يعتقد. يقول الجابري: «فلفظ العلمانية، حتى إذا قصرنا معناه على العالم الدنيوي، لا يفيد شيئًا محددًا في المجال التداولي العربي. وكل ما في الأمر هو أننا إزاء تحايل لغوي لتحميل هذا اللفظ معنى لا وجود له في اللغة العربية».