للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا النظر إلى نظام القضاء السعودي، الصادر بالمرسوم الملكي رقم «87» بتاريخ 19/9/1428هــ، حيث نصت المادة «31» على الشروط الواجبة فيمن يتولى القضاء في المملكة العربية السعودية، وذكر فيها بالفقرة «ج» أنه يشترط للقاضي أن يكون: «متمتعا بالأهلية الكاملة للقضاء، بحسب ما نص عليه الشرع».
وعند اللجوء إلى نصوص الشرع، لفهم معنى «الأهلية الكاملة»، نجدها مسألة مختلفا فيها بين الأئمة الأربعة، فالمالكي اشترط شروطا تكميلية لا وجوبية، وهي أن يكون «سميعا - بصيرا - متكلما»، بمعنى أنه يجوز تولي القضاء من الكفيف والأبكم، وكذلك في الشافعي كان الكفيف أبو سعد عبدالله بن محمد بن أبي عصرون من أبرز قضاة الشافعية، بينما نجد الحنبلي قد اشترط سلامة الحواس لمن يتولى منصب القضاء؛ لذلك فهي مسألة خلافية وليست جازمة. وبعد أن اتضح لنا المعنى الشرعي لـ«الأهلية الكاملة»، علينا أن نُحلل بعض المسائل المهمة المتعلقة بعمل الكفيف من جهة وعمل الأبكم من جهة أخرى، على النحو التالي:
بداية نتحدث عن عمل الكفيف في القضاء، فنجد من أبرز الشخصيات في عصرنا العلامة «ابن باز»، مفتي المملكة، الذي عمل بالقضاء حقبة من الزمن وهو كفيف، ونجد في الشافعية الإمام عبدالله بن محمد بن هبة التميمي، وأبي شجاع أحمد بن حسن الأصبهاني، الذي اشتهر بصرامته في القضاء وهو كفيف، فلا معنى لعلة من يقول إن الكفيف لا يصلح لهذا المنصب، لأنه لا يميز بين المدعي والمدعى عليه، لأن القاضي يحكم ببصيرته وليس ببصره؛ لذلك فإن وجود نص قانوني ينص على «الأهلية القانونية الكاملة»، وسكوت المشرع السعودي عن حق الكفيف بالقضاء يُعد، من وجهة نظرنا، قصورا قانونيا في حق المكفوفين.
ولأن معنى «الأهلية القانونية» أن يكون الشخص «حرا - سميعا - بصيرا - متكلما»، فوجب على المشرع الاستثناء، والتفرقة ما بين الإعاقات الحسية والإعاقات الأخرى.
من جانب آخر، نرى لو طبقت فكرة تمكين الأبكم من العمل في القضاء، فيجب أن يكون هناك بعض الاعتبارات المهمة، ومنها: أن يعمل في دائرة ثلاثية (متعددة القضاة)، حتى لا يكون عمله مُخالفا للنظام؛ لأن نظام المرافعات الشرعية اشترط أن يكون منطوق الحكم شفويا، وهذا ما لا يتوافر لدى القاضي الأبكم، وهو ما نصت عليه المادة «164» من نظام المرافعات الشرعية:
«يُنطق بالحكم في جلسة علنية بتلاوة منطوقة أو بتلاوة منطوقة مع أسبابه..».
ومن حيث قفل باب المرافعة والمداولة، لم يشترط النظام أن تكون المداولة شفوية بين القضاة، حيث نصت المادة «160» من نظام المرافعات الشرعية: «إذا تعدد القضاة فتكون المداولة سرية...». لذلك، نؤكد أهمية تعديل نظام القضاء بما يتناسب مع تمكين الكفيف بالمجال القضائي، كما يسعى البعض الآن إلى تمكين المرأة في القضاء، فالنظام لم يمنع عملهم في هذا المجال، وفي الوقت نفسه، لم يكن مفتوحا؛ فإن كان لكل من المرأة وذي الإعاقة من حقوق، فحق الأخير أولى وأجدر بالرعاية.
في نهاية هذا الحديث، يجب أن نكرر التنويه، ونوصي بتعديل نظام القضاء بإضافة فقرة واحدة، مفــادها: استثناء الكفيف والأبكم من الفقرة «ج» من المادة «31»، ولكن بقيود: - أن يعمل كل منهما في دائرة متعددة القضاة.
- أن يعمل كل منهما قُضاة في الدوائر الحقوقية اليسيرة. - في حال الموافقة على تمكينهما بالعمل في القضاء، من الممكن أن يصدر تنظيم قضائي معين يتناسب مع قدراتهما، من حيث الترقية مثل إنشاء اختبارات خاصة بهما.
- استثناؤهما من التعميم الصادر بحظر استخدام التكنولوجيا مثل الجوالات والآيباد في جلسات المحاكمة، وتوفير أجهزة ترجمة لهما من قِبل الوزارة؛ حتى يستطيعا استخدامها في أثناء العمل، على أن تُصرف لهما من قِبل الوزارة مثل أي موظف سليم يُصرف له جهاز كمبيوتر مكتبي، وهذا يُحقق مبدأ المساواة. خلاصة الحديث:
من هنا نستطيع القول بأن نص هذه المادة حظر على كل من الكفيف والأبكم العمل في المجال القضائي بمعنى غير مباشر، وذلك من خلال النص على اشتراط «الأهلية الكاملة» للقاضي، ونحن لدينا فكر نمطي، سائد عند الأغلب، مفاده بأن ذوي الإعاقة لديهم عارض من عوارض الأهلية، ومن ثم هم غير قادرين على تولي القضاء، وهذا غير صحيح، فالكفيف والأبكم لهما الأحقية في العمل بهذا القطاع، ولكن بقيود يُستلزم على المنظم السعودي أن يُراعيها، لأن سكوته عنها بهذه الطريقة أدي إلى عزوف هذه الفئة عن معرفة حقوقهم بالمجالات الوظيفية في المملكة.