«الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» أول معرفتي اللصيقة بهذه المفردات، قبل سبعة وعشرين عاما تقريباً، وكنت طالباً بالجامعة، حيث تأخرت المكافآت وظهر لنا أن المحاسب «اختلسها» فتجمع الطلاب أمام عمادة شؤون الطلاب بأعداد غفيرة، وشاءت الصدفة وحدها أن أكون في مقدمة المتجمعين، عند خروج العميد وركوبه لسيارته، فأجبره الطلبة على الوقوف، وكنت المتحدث بحكم مكاني من نافذة سيارته، ففتح النافذة وبدأت في مناقشته، فصمت الطلاب المتجمهرون ليسمعوا، وكان كل حديثه يدور حول التسويف، وكل حديثي يدور حول طلب تحديد موعد لصرف المكافآت المتأخرة، وأثناء هذا النقاش «الحاد والعقلاني في نفس الوقت» تفاجأت بأحد الطلاب وسط هذه الجموع، وهو يصف العميد بأوصاف نابية، لترتفع الأصوات من هنا وهناك، بنفس السباب والشتائم، وعند سماعي لأول كلمة نطق بها هذا الفرد وسط الجموع، وانفلات الشتائم من «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» شعرت بخزي وعار وذل ومهانة، وقوفي ممثلاً لمن يوجد بينهم هؤلاء «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» وتحولت من مدافع عن شأني وشؤونهم الخاصة، إلى مدافع عن سيارة عميد الكلية، وطلبي من المتجمهرين الإفساح لها بالعبور وعبرت فعلاً، وقد ذهبت إلى منزل والدي مليئا بالخوف والقلق والشك والحيرة، مع شعور عال بالعار والحماقة التي اقترفتها بالانتساب إلى «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» حتى ولو كانوا على حق، فهم أهل جور في الخصومة، وذوو طبائع تدميرية على أنفسهم قبل غيرهم، حتى ولو كان الحق معهم، ثم كانت تجربتي الأخيرة مع «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» قبل سبع سنوات، بعد أن سألتني زوجتي عن موقفي وهي مليئة بالخوف والرعب الحقيقي من فائض «القبح» على تويتر آنذاك بسبب مقال «مع زوجتي من رجال ألمع إلى القطيف» فكتبت «المثقف وفائض الشتيمة» كمبدأ عام أعيش به بعيداً بقدر استطاعتي، عن «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» حتى ولو أدى ذلك إلى غلق حساباتي في وسائل التواصل، فمن الذكاء أن يعرف الإنسان قدراته، وقدراتي ضعيفة جداً في احتمال الإساءة، رغم وصية أستاذي الحكيم عثمان الصيني، قبل عشرين عاما، عندما قال بعد لقائي الأول به: من يتصدى بالرأي في الشأن العام، فعليه احتمال حرارة الفرن، أو فليصمت، لكنه لم يقل لي تفاصيل كثيرة عن بشر لا يعرفون شرف الخصومة، وعن أشخاص يعكرون الماء الصافي ليصطادوا فيه، وعن قيح وصديد البشرية، في أخلاقها الرديئة التي تخرج متفجرة إلى حد قتل المفكرين وكبار المثقفين، لا لسبب سوى أنهم لمسوا قروح وجروح مجتمعهم، التي تحتاج لعلاج فما كان من «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» إلا أن كانوا كالدابة، تثور على من يحاول علاجها، ما لم يستخدم «المصلح السياسي» مخدراً يبقيها نائمة، حتى ينتهي من علاجها.
وأخيراً «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» هم كل من تتلبسه غريزة القطيع، بمجرد أن يدخل إلى وسط الجماهير، حتى في وسائل التواصل، فقد يظهر لك على شكل مثقف، لكنك تكتشفه متخلياً عن الكتابة كفعل ثقافي نقدي، ويختار بدلاً عن ذلك الكتابة باعتبارها محاكمات دهمائية، تصطف مع «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام»، ليزداد عدد متابعيه منهم، كأن يحاكم أحدهم هذا المقال بأنه «نخبوية فجة» بدلاً من إرشادهم نقدياً لطريق «الفردانية والاستقلال الفكري»، وعليه فالشاعران الشعبيان بندر بن سرور وابن جدلان، فيهما من الفردانية والاستقلال الفكري ما ليس في هؤلاء المثقفين الدهمائيين الشعبويين، وبأمثال هذه المحاكمات السمجة اللزجة من الإرث الصحوي، يضيع كثير من الأطروحات الكبرى لمشاريع فكرية كبرى، لمفكرين ومؤرخين كبار، فيكفي مثلاً أن يصف الدهمائيون «هشام جعيط» بأنه ضد الدين، لتنسف كل جهوده في الحفر التاريخي في مؤلفاته العظيمة، لأن «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» هم من حاولوا قتل نجيب محفوظ، وقتلوا قبله فرج فودة، بينما قادة «الديماجوجية» هم من أصدر حكم القتل، ولهذا ينسب لأمبرتو إيكو قوله: «إن وسائل مثل تويتر وفيسبوك، منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء»، وذروة هذا الغزو رأيناه حياً صوتاً وصورة، باقتحام «الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» لمبنى الكونجرس الأمريكي.
«الدهماء، الرعاع، الغوغاء، العوام» التماهي معها قتلٌ للحس النقدي، وللموهبة والإبداع بداخلك كفرد، والتلاعب بها قتل للضمير الحي والأخلاق النبيلة، واستغلالها لمنافع شخصية هو ما خلط العلمي بالعلموي، والشعبي بالشعبوي، والثقافي بالثقافوي، والسياسي بالسياسوي.... إلخ من فوضى الحواس الفكرية والنفسية، على وسائل التواصل الاجتماعي، أما توجيهها إلى ما ينفعها، فواجب كل سياسي قادر في كل أنحاء العالم.