انتهت خلال اليومين الماضيين الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفوز السيد فرانسو هولاند بمقعد الرئيس، وكنا كعرب متوطنين على فوز القابض على الكرسي دائماً، ولهذا فإننا ـ بصراحة ـ كنا نتابع الانتخابات الفرنسية بطرف العين، بل بأقل نسبة نظر ومتابعة، باعتبار أن النتيجة محسومة سلفاً بحسب العادة العربية للرئيس الراهن، لأنه يملك كل الصلاحيات وبيده مفاتيح ومغاليق صناديق الاقتراع، ويستطيع أن يحشد ويراكم الأصوات المؤيدة..
لكن الرئيس ساركوزي خذل توقعاتنا، وأحبط قراءاتنا المدجنة لواقع الانتخابات. والغريب أن الرئيس الفائز وهو فرانسو هولاند، فاز بما عُد واعُتبر نقيصة ومثلبة في ملفه أو سيرته الذاتية، وهي أنه رجل (عادي) كان شانئوه يقولون إنه رجل (عادي)، وإنه لا يتميز بمواصفات خرافية أو مواهب وقدرات فائقة، فكانت هذه المآخذ – للمفارقة - السبب الرئيس الذي قاد الفرنسيين لاختياره وانتخابه.
لقد صوت الفرنسيون لاختيار الرجل الذي تتساوى قامته مع قاماتهم وتنسجم قدراته وربما طاقاته العقلية مع قدراتهم، لم ينتخب الفرنسيون رجلاً مغايراً أو إنساناً فوق العادة، ولم يبحثوا عن الرجل "الهيرو" الخارق، بل مضوا يؤيدون شعاره الانتخابي بما جعل العنوان الأبرز للصحف الفرنسية فور إعلان النتائج هو فوز "الرجل العادي"
لقد اختاره الفرنسيون لأنه يشبههم ولم ينزل عليهم من كوكب آخر، أما في العالم العربي، فإن الرئيس لابد أن يكون من طينة أخرى غير طينة السكان وغير فصيلة البشر، ولهذا يعمد الرؤساء العرب إلى تجييش الآلة الإعلامية وتسخيرها لتضخيم صورة الرئيس الملهم، أو الرئيس الضرورة أو القائد الفذ.
والمفارقة الأخرى في نتائج الانتخابات الفرنسية النهائية، أنها متقاربة جداً، فقد تحصل الرئيس القادم فرانسو هولاند على نسبة 51,7% فيما حاز ساركوزي على نسبة 48,3%، ولو كانت جرت مثل هذه الانتخابات في الأوساط العربية لرأيت النسب المئوية التي تعبر بالضرورة عن أن الرئيس القابض على الكرسي هو الرئيس الأبدي، ولهذا فإن منافسه الذي لا يوجد في الواقع أو المواطن الممتنع عن التصويت (وهي كذبة أكبر) هم الذين يجعلون للنسبة هامشاً يعبر عن عدم وصولها لمئة في المئة. ولكي تتضح الصورة أمامك أكثر فما عليك إلا أن تدير ناظريك من قريب في الجوار العربي وفي ربيعه "القائض"، لنرى أثر التحول في ليبيا، وتونس، واليمن، ثم انظر إلى ما يحدث في الشقيقة مصر في ميدان التحرير وما تلاه في العباسية، ثم تأمل في مهزلة الانتخابات التشريعية في سورية، على أنني أظن أن ثمة خطأ مطبعيا، لأن الأصح هو أن تسمى الانتحابات التشريحية لتكون أكثر مطابقة للواقع.
فاز الرئيس الفرنسي الجديد واسمه بالمناسبة فرانسو، فبادر ساركوزي على الفور بتهنئته مصطحباً التمنيات الطيبة له وللفرنسيين، ثم ألقى خطاباً، وهو بحسب خبيرنا في فرنسا أخي الدكتور زياد الدريس، خطاب عاطفي مؤثر يعتذر فيه للشعب الفرنسي عن كل الأخطاء التي يمكن أن يكون هو وفريقه قد وقعوا فيها، دون قصد، خلال ولايته التي استمرت خمس سنوات، ويشكر الفرنسيين على دعمه خلال فترة رئاسته ويتمنى عليهم دعم الرئيس المنتخب الجديد هولاند. ويظن أخي زياد أن شحنة العاطفة التي خلفها في نفوس الناس على أثر الخطاب كان يمكن أن تزفه للرئاسة مجدداً لو كان في العالم العربي.
وأزيد على كلام أخي مذكراً بخطاب التنحي الصوري التمثيلي الذي ألقاه جمال عبدالناصر إثر الهزيمة التي تنكبها العرب في عام 67. ولعل الراسخون في العمر يتذكرون كيف تم تجييش وحشد الهتيفة الذين خرجوا بمئات الآلاف في الشوارع وفوق الجسور ومن على نوافذ المباني يبكون وينتحبون ويرجونه أن يعود عن قراره، وبالفعل فقد استجاب لهم وتكرم عليهم وعاد للكرسي الذي لم يغادره ولم يكن ينوي ذلك أصلاً.
مرة أخرى، أدر ناظريك على الربيع العربي في مصر وأحداث العباسية التي أودت بحياة العشرات من الأبرياء لمجرد أن مؤيدي ومناصري المرشح حازم الممنوع من الترشح لم يقتنعوا بقرار المنع ونزلوا للشوارع يلطمون، ويخربون ويكسرون ويعبثون في الأرض هدماً وتخريباً، لكأن البلاد ملك للمرشح فإن لم يسمح له فلنقلب سافلها عاليها.
انقشعت غمامة الانتخابات الرئاسية في فرنسا وتصافح الرئيسان السلف والخلف بكل تحضر وأريحية. كانت منافسة أو لنقل مباراة حامية الوطيس مثيرة في تفاصيلها وأحداثها، لكن كان من المحتم في النهاية فوز أحد الفريقين، وهذا بالضبط ما حدث، ولهذا تقبل المهزوم خسارته بروح رياضية وانفض الحشد ومضى كل إلى سبيله، تماماً مثلما يحدث في المباريات الكروية عندهم.. يتصارع الفريقان ويتمتع الجمهور المشاهد وهو يشجع ويصطف كل مشجع إلى جانب فريقه لكنهم يتسللون من الملعب بهدوء ونظام بمجرد نهاية الحدث، لكن الأمر في عالمنا العربي مختلف على صعيد الانتخابات الرئاسية أو المباريات الكروية، ولعل أحداث مباراة الأهلي المصري والبور سعيدي وما تبعها من أحداث مؤلمة وحزينة وما نتج عنها من وفيات وجراحات دليل على وضعية عالمنا المسكين.
الأكيد هو أن الأمة العربية أمة عاطفية لم تختزن أو تمتلك حتى الآن أسباب الحضارة وتحكم عقلها فيما تنتهجه من قرارات أو توجهات، بما يعزز من المقولة الأزلية: "مثلما تكونوا يولى عليكم".