ويبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة اتخذت فن التسليك كعنوان لسياستها الحالية مع الحلفاء في الشرق الأوسط لأسباب عديدة، الإدارة تعرف جيدا أن أي استدارة علنية لها بالتخلي عن حلفائها التقليديين لعقود ستسبب مشكلة داخلية وخارجية، المشاكل الداخلية هي وجود معارضة شديدة من الحزب الجمهوري وحتى بعض عقلاء ومخضرمي الحزب الديمقراطي، وهذا غير أن الحلفاء في الشرق الأوسط سيحاولون بشتى الطرق إيجاد طرق للضغط على الإدارة سواء داخليا أو خارجيا، إضافة إلى ما سيتسببه الموضوع من تداعيات على أمريكا وبقية تحالفاتها حول العالم، وإظهارها بالحليف غير الموثوق الذي يرمي أصدقاءه تحت الباص كما يقول المثل الإنجليزي.
لكن إذا حاولت طمأنة الحلفاء ببعض الكلام المعسول بالعلن والخفية ومن ثم استكمال الأهداف على ما هي عليه فإن الحلفاء سيكونون أقل ضجيجا وتكون الاستدارة متدرجة بدلا من استدارة مفاجئة قد تحدث ضجيجا حتى على مستوى النقل، فتقريبا كل شيء مفاجئ تكون ردوده وصوته أعلى !
الذين وضعوا سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة وضعوها على عدة خطوات، وهي لا شك استكمال لسياسة أوباما السابقة لكن بصيغة ورداء جديد ! لقد تعلموا جيدا من درس الماضي ومن الذي أوقف موجة الخريف العربي، والآن ما زالت الأهداف على ما هي عليه لكن مع تغيير التكتيك !
البعض يتكلم أن إدارة بايدن ليست هي إدارة أوباما 2، وأن الوقت تغير عن 2011 لكن لنتكلم بواقعية، كثير من مسؤولي ورجال إدارة بايدن هم بالأحرى من إدارة أوباما، بل إن الوضع أصبح أسوأ بترقي بعض أعضاء إدارة أوباما إلى مراكز أعلى حاليا، وهم معروف عنهم حتى وقت قريب جدا أنهم يعادون حلفاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط، ويعشقون إيران مثل روبرت مالي وطبطبائي. بعض الباحثين الآن يقولون من باب الدعابة الحزينة إنهم لا يعرفون إذا كانوا يفاوضون إيران أو يفاوضون روبرت مالي نفسه الذي يحرص على مصالح إيران ربما أكثر من إيران ! هناك مثل إنجليزي شهير يوضح الأمور، إذا كانت كل الدلائل تشير إلى شيء معين لماذا تبحث عن تفسير آخر نادر الحدوث حتى تعاكس الواقع، إذا تصرفات إدارة بايدن ونوعية مسؤولي إدارة بايدن كلهم معروفة للجميع منذ سنوات، لماذا تظن أن تطميناتهم سواء العلنية أو السرية تحمل أي معنى حقيقي!.
يقول المثل الإنجليزي «إذا كانت تشبه البط وتمشي مثل البط وتصدر صوتا مثل البط فغالبا هي بطة»، لا أعلم إلى الآن لماذا البعض من الباحثين يريد أن يحجب عن نفسه كل الدلائل والتصرفات والأفعال والإشارات الصريحة عن إدارة بايدن ويصدق تصريحا أو تطمينا خفيا !.
إدارة بايدن تعلمت أن من وقف في وجه الخريف العربي السابق هم الخليج أو على الأقل بعض الخليج والشقيقة الكبرى، لذلك تركيزهم على الشقيقة الكبرى، شئنا أم أبينا مذكرات مستشار أوباما السابق تكشف بصراحة رأيه وأنه لا يحب العرب !.
كثير من الباحثين المخضرمين المرموقين من الحديث معهم ومن معرفتهم لخفايا الأمور في الإدارات الأمريكية، يعتقدون أن خطة إدارة بايدن مع العرب والخليج تنقسم إلى ثلاث مراحل:
-1 المرحلة الأولى هي مرحلة حضنة الدب، وهي عندما يحضن الدب أحدا فإنه يبدو من بعيد أن الدب يحضنه من محبة لكنه في الواقع يكتفه ويعصره ولا يستطيع التحرك أو التملص وهو تربيط أكثر من أنه محبة، حتى لا يعترض على شيء أو يخرب بعض الأمور التي تنجز بالخفاء وهو يظهر للناس أنها حضنة محبة، ولا يمنع أن يمده ببعض العطايا أو الهدايا التي لا تغير كثيرا في النتائج النهائية.
أوباما وافق على أكبر صفقة سلاح في المنطقة في عصره، لكنه أعطى أكثر من 150 مليارًا لإيران، وأطلق يديها للتخريب في المنطقة من خلال الحرب غير التقليدية.
-2 المرحلة الثانية تسمى تقاسم النفوذ والخروج، لكي تجعل لأي عملية غير مرغوبة داخليا أو خارجيا نوعا من القبول، يجب أن تطلق عليها اسم محبب وهنا يأتي (تقاسم النفوذ - والخروج) وهي مكونة من جزئين، فكلمة (تقاسم) تبدو كأنها كلمة فيها عدالة وهو تقاسم النفوذ مع إيران في المنطقة، وكأن إيران تريد نفوذا اقتصاديا أو سياحيا !! إيران دولة أيدولوجية تؤمن بالتدمير ولا تدخل بلدا إلا كانت مثل الطاعون تدمره ! أي تقاسم تطرح أمريكا؟ أما عبارة (الخروج) فهي كلمة محببة لمسامع الشعب الأمريكي والسياسيين.
يتم التسويق الآن في واشنطن أن إدارة أوباما بين قوسين (إدارة بايدن) تريد تخفيف أعداد وجودها في الشرق الأوسط، وبالتالي تخفيض التكاليف والتركيز على محور آسيا أو ما يسمى الخروج التدريجي من الشرق الأوسط، وهذه العبارات تثير شهية بعض الساسة في واشنطن من قبيل أنها إعادة تموضع والتركيز على الصين وتحجيمها الذين يعتبرونها العدو اللدود المستقبلي، هناك الآن غرف صدى كبيرة (الايكو شامبر) نسمع صداها في واشنطن وتضخيمها لهذا المبدأ. الخطة القديمة نفسها التي عملت في عهد أوباما، تعاد حرفيا وكانت تلقي الكرة وغرف الايكو شامبر تضخمها وتصبح حديث الإعلام والباحثين !.
الآن هناك أحاديث نسمعها من بعض المصادر، أن الإدارة الأمريكية تحاول إقناع إسرائيل بتقاسم النفوذ مع إيران في المنطقة على حساب العرب، وترسل إشارات من قبيل هناك تفوق نوعي إسرائيلي والأهم عدم حصول إيران على النووي، ولتتقاسم إسرائيل وإيران المنطقة (وما عليكم من العرب!).
-3 المرحلة الثالثة هي مرحلة (الحرب غير التقليدية والإنهاك)، هناك اعتقاد لدى الإدارة الأمريكية أن قدرات إيران في الحرب غير التقليدية (اسمتريك ورفير) أكثر خبرة وأعمق من الخليج والعرب، وإيران معتادة على الحرب غير التقليدية وبناء الشبكات والميليشيات، بينما الخليج ليس لهم باع طويل في ذلك، لذلك تتوقع الإدارة الأمريكية أنه مع الوقت سيتم إنهاك الخليج بالحروب غير التقليدية وستضطر الدول الخليجية لتقديم تنازلات كبرى، وسيصبح الموضوع ليس تقاسما ولكن تنازل، ومن ثم تصل مرحلة الشرق الأوسط لنوع من معادلة شبه التوازن أحدهما يكسب والآخر يقدم تنازلات، أما بالنسبة لإسرائيل فأجهزتها الأمنية والاستخباراتية أثبتت شراستها مع إيران لذلك إيران ستعرف حدودها مع إسرائيل وسيكون تركيز إيران على العرب، وهذا الاتفاق الضمني ستضمنه أمريكا بين إسرائيل وإيران، أما مصالح العرب غير مهمة، وهنا تعاد نفس خطة أوباما، فالأمريكيون يعتقدون عندما يتدفق المال إلى إيران من رفع العقوبات فإنها ستنشط أذرعتها بالمنطقة تماما مثل مرحلة أوباما، وللدفع في هذا الاتجاه هناك بعض الإشاعات عن مباركة لتكوين التحالف الإسرائيلي الغريب جدا الجديد لتولي الحكم في إسرائيل، ومن مكونات مستحيل أن تلتقي في الظروف العادية، لا يجمعهم شيء إلا الإطاحة بنتنياهو وربما ينفض التحالف بسرعة بمجرد الإطاحة بنتنياهو، وتقول بعض الأوساط إن التحالف مدعوم من بعض الجهات بعضها داخلي وبعضها خارجي، فقط لكي ترضى الحكومة بصفقة تقاسم النفوذ مع إيران، والتي يرفضها نتنياهو، ليس حبًا في العرب لكن نتنياهو بطبعه يميني متشدد ومخضرم ويعرف إيران جيدا ويعتقد أن إيران ستقبل بتقاسم النفوذ مرحليًا لكنها في النهاية ستطمع بالمزيد وربما ذلك يشكل خطرا مستقبليا كبيرا على إسرائيل، بينما إذا تحالف مع بعض العرب فإنه يعرف أن العرب ليس لديهم القدرات للطمع، وأيضا يمشون جنب الحيط رغم الهياط، أيضا تاريخيا أنجح التحالفات في السياسة الدولية عبر التاريخ حسب مدرسة السياسة الواقعية هي إما أن تتحالف مع من هو أضعف منك أو مع من هو أقوى منك بمراحل، لكن أسوأ التحالفات مع من هو مقارب لك لأن النتائج ستكون منافسة مستمرة وتشتت في القرار وأيضا قلة استفادة.
كثير من الباحثين في مراكز الفكر السياسي حتى في واشنطن يستغربون أن بعض أهل المنطقة لا يرون السيناريو الحالي، يقولون إنه واضح وجلي ولا يحتاج تفسيرات وهو مجرد تكملة لما توقف سابقا. وأيضا هناك بعض الاستعجال في عمله خوفا من أن توقف الانتخابات النصفية وتيرة العمل. البعض من أهل العرف في واشنطن يقولون لنا إنهم ليسوا متفاجئين بالسيناريو لأنه واضح، لكن متفاجؤون بشدة حماس بعض أعضاء الحكومة الأمريكية الجديدة لتنفيذه وكأنه عقيدة. كانوا يعتقدون أن كلام بعض المسؤولين عندما كانوا خارج الحكم هو حماس زائد لبعض الأفكار، وأنهم فور توليهم المنصب سيتغيرون، لكنهم تفاجأوا فور توليهم للمناصب بالإدارة الجديدة لم يضيعوا وقتا للبدء بتنفيذه دون حتى مراعاة للحصول على المعلومات الكافية لوضع تقييم منطقي وواقعي للوضع. ستكون هناك بعض القنابل الدخانية وأيضا ضغوط لتشتيت الانتباه لدول المنطقة، وربما بعض الهدايا للتطمين، لكن الخطة الكبرى تنفذ على قدم وساق !!.
ومختصر القول (ترى الذيب في القليب!).