استدلت الرشيد على أن «الدين ليس سياسة»، كما هي عبارتها، بنص لابن خلدون، أورده في المقدمة، وهو قوله: «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»، ثم عقبت على هذا النص الخلدوني بقولها: «سطور ابن خلدون واضحة، وتميز الخلافة عن الدولة، (الملك الطبيعي أو الملك السياسي بحسب عباراته)، بكونها داخلة في باب العبادات والالتزامات الروحية، لا التدبير السياسي». وتقصد بذلك، بحسب ما فهمت من عبارتها، أن ابن خلدون يرى أن الخلافة ليست من الدين، أو أنه يرى فصل السياسة عن الدين. ولي على هذا الاستنتاج بعض الملحوظات:
أولا: نص ابن خلدون الذي أوردته الدكتورة لم يشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى فصل السياسة عن الدين؛ بل العكس هو الصحيح، فابن خلدون في نصه ذاك يؤكد أن الدين شريعة وسياسة، دين ودنيا، كما ذهب إلى ذلك المرحوم، محمد عابد الجابري في كتابه «فكر ابن خلدون، العصبية والدولة»، إذ يرى أن هذا النص يوحي بأن ابن خلدون يميل إلى أن الخليفة إنما يستمد سلطته من الشرع. وبالجملة، فابن خلدون يقف في هذا النص في صف نظرية الخلافة عند أهل السنة والجماعة، التي تلحم الدين والسياسة برباط قوي لا ينفصم أبدا. على أن الموضوعية هنا تقتضي أن هذا ليس الرأي النهائي لابن خلدون، في ما يخص مصدر السلطة. وهكذا، فهو، أي ابن خلدون، يربط مسألة الحكم بـ«الوازع»، من منظور أن الاجتماع البشري لا يتم إلا بوازع يزع الناس عن أن يعتدي بعضهم على بعض. وهذا الوازع قد يؤسسه الدين أو العقل؛ وليس شرطا أن يؤسسه الدين وحده. وبالجملة، فالنص الخلدوني الذي أوردته الدكتورة لا ينطق إطلاقا بما استنتجته هي منه. وكان يمكن للدكتورة أن تعتمد على نص آخر لابن خلدون، ربما تجد بغيتها فيه، ولو على نحو نسبي. هذا النص جاء في الفصل الأول من الكتاب الأول، بعنوان «في أن الاجتماع الإنساني ضروري»، والذي تطرق فيه إلى منشأ الوازع، أو السلطة باللغة المعاصرة، فأكد أن منشأ السلطة ليس بالضرورة أن يكون الدين، بل يكون بالعقل أيضا. ومن هذا النص يمكن القول، إن ابن خلدون يفصل بين الدين والسياسة. كما كان يمكن لها أن تعتمد على ما جاء في الفصل الخامس والعشرين، من الباب السادس، (في علم الطب)، من قوله: «فإنه، صلى الله عليه وسلم، إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تأبير النخل ما وقع فقال: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)». ففي هذين النصين يمكن أن يقال، إن ابن خلدون يجعل الحكم، أو الإمامة، أو الخلافة شأن اجتماعي بحت، يرجع تدبيره إلى العقل وحده.
ثانيا: عدت الدكتورة الإمامة شأنا تعبديا، وهذا خروج على منهج الأصوليين، الذين قسموا الأحكام، كما يقول المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية»، إلى قسمين: معلل وتعبدي. فالمعلل ما كانت علته واضحة، أو منصوصا عليها. أما التعبدي، فهو ذلك الذي لا يهتدى إلى حكمته. وحكم المجتمعات ظاهر العلة تماما، من منع الناس عن أن يعتدي بعضهم على بعض، وإقامة العدل، ومراعاة معاش المحكومين، ورعاية مصالحهم؛ ومن ثم لا يمكن، منهجيا وأصوليا، أن نقول إن الإمامة شأن تعبدي.
في رد أحمد الرضيمان على الرشيد، ذكر أن الإمامة من أصول الاعتقاد، وهذا خطأ بين. فالإمامة واجبة بالشرع والعقل، ولا يمكن أن يترك الناس لأهوائهم وعواطفهم، وإلا تحولت المجتمعات إلى غابة، يقتل القوي فيها الضعيف، لا سيما وأن الإنسان، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي المشهور توماس هوبز، (ت سنة 1679)، ذئب لأخيه الإنسان، لكنها ليست من أصول الاعتقاد التي حددها القرآن بخمسة هي «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر»، وأضافت السنة المتواترة أصلا سادسا هو«الإيمان بالقدر خيره وشره». والإمامية من الشيعة وحدهم الذين عدوا الإمامة من أصول العقائد. ورغم الخلاف الشيعي السني، في ما يخص الخلافة والإمامة، إلا أن أهل السنة لم يعدوا الخلافة من أصول العقائد، بل إن من بالغ في التنظير لها، عدها من فروع العقائد، التي هي اجتهاد فقهي محض، لم ترد لا في القرآن ولا في السنة.
خلاصة القول، إن تنصيب الإمام، أو الحاكم في اللغة المعاصرة، واجب بالعقل والشرع معا، ولا يمكن أن تترك المجتمعات فوضى لا سراة لها. فوجود السلطة السياسية ضروري، كما قال ابن خلدون نفسه في المقدمة: «اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري، وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه. وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانا بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم». وكما قال في موضع آخر: «وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض»، لكن الحكم، أو الإمامة، أو الخلافة ليست من أصول العقائد. والتفرقة هنا تفرقة إبستمولوجية معرفية، وليست سياسية. وهذه التفرقة لا تهون من شأن الإمامة، بقدر ما هي وضع للأمور، معرفيا، في مواضعها الصحيحة المحددة: عقديا وتشريعيا.