عبر تعامل مرن مع أرضية المطاف في المسجد الحرام وربطها مع الرواق العباسي بميل خفيف مع الحفاظ على الصبغة التاريخية للرواق، وإنشاء رواق سعودي محاذٍ له، تأتي فكرة مشروع توسعة المطاف الذي تولت دراسته هندسياً جامعة أم القرى ووافق عليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليلة ختم القرآن الكريم بالحرم الشريف، والذي جاء متزامنا مع تطوير عمارة المسجد الحرام مع المحافظة على الصورة البصرية المميزة للمسجد الحرام.
وتهدف توسعة المطاف والمسعى وإنشاء الرواق السعودي إلى زيادة استيعاب الأعداد الغفيرة التي تلج إلى المسجد الحرام، في الوقت الذي كان فيه الرواق العباسي تمارس فيه بعض الأمور الإدارية والمالية وتوزيع الصدقات والمبرات، وحلقات الوعظ والإرشاد والتعليم في الوقت الذي يعتبر فيه مكاناً مظللاً للصلاة.
رواق دون أعمدة
وأكد مدير جامعة أم القرى، الدكتور بكري بن معتوق عساس أن المشروع تمثل في تطوير المسعى لتصل طاقته الاستيعابية إلى 108 آلاف ساع في الساعة، وقال "وهو الأمر الذي دعا إلى العمل على زيادة الطاقة الاستيعابية للمطاف فبات من الضروري التخطيط لمنظومة بفكر علمي مدروس ورؤية استراتيجية عالية المستوى"، وأضاف "جاءت أفكار المشروع لتتمحور حول إنشاء رواق سعودي جديد خال من الأعمدة مع تعزيز الطواف بصحن المطاف من خلال إعادة التعامل مع أرض صحن المطاف والرواق المحيط بها إلى جانب ربط جميع الأدوار المخصصة كمساحات للمطاف بنفس مستوياتها من المسعى بما يسمح بالتوازن في حركة الطائفين والمعتمرين بجميع الأدوار".
وأبان عساس "أنه جرى تخصيص مسطحات بدور الميزانين المضاف بالدور الأول لطواف عربات كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة لتتسع لنحو 6 آلاف طائف في الساعة، كما جرى تخصيص مسطحات لصلاة سنة الطواف وربطها بالمسعى من الجهة الشرقية من خلال جسور ربط لمستوى حركة العربات المضاف مع المستوى المماثل له بالمسعى الجديد". مؤكدا أن التصور الجديد سيساعد على رفع طاقة المطاف من 50 ألفا في الساعة حالياً إلى ما يقارب 130 ألفا في الساعة.
وأشار إلى أنه جرى تدعيم تلك المسطحات الجديدة والمضافة بمسارات حركة تعزز من كفاءة حركة الدخول والخروج للطائفين، فمنها ما يعمل على الوصول المباشر من خلال جسور مرتبطة بساحات تجمع جرى توفيرها وتهيئتها على مسافات مناسبة بعيدة عن مداخل الحرم وساحاته، وذلك لتخفيف العبء عنها وتسهيل عمليات الإخلاء السريع والوصول غير المباشر عبر ممرات ما بين مسطحات الصلاة في الدورين الأول والثاني.
وأفاد مدير جامعة أم القرى بأن المشروع المقترح يحافظ على الصورة البصرية المميزة للمسجد الحرام، لافتا الانتباه إلى أن التصور يحقق غاية أكبر وأشمل تتطلع إلى إمكان إحداث توسعات مستقبلية لعمارة المسجد الحرام ليتسع للمزيد من الطائفين والعاكفين والركع السجود، مؤكدا أن الحل المقترح "يرتبط ارتباطا مباشرا بالتوسعة الشمالية المباركة التي وضع حجر الأساس لها خادم الحرمين الشريفين".
اختلاف التنشئة
إلى ذلك، قال أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى، الدكتور عدنان محمد الحارثي: اختلاف النصوص التاريخية في تحديد زمن نشأت الأروقة في المسجد الحرام حيث بعضها يذكر أن عمارة الأروقة لم تظهر إلا في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقال "فالبلاذري عندما يتحدث عن عمارته رضي الله عنه للمسجد الحرام يقول (ويقال إن عثمان أول من اتخذ للمسجد أروقة)، ويؤكد هذا الأمر إبراهيم الماموني فيقول (وزيادة أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ في سنة ست وعشرين من الهجرة فابتاع منازل الناس ووسع بها المسجد وعمره وجعل له أروقة فكان ـ رضي الله عنه ـ أول من اتخذ الأروقة للمسجد الحرام وقد مال إلى هذا الرأي عدد من المؤرخين)".
أما المصادر المكية المبكرة فإنها تشير إلى أن اتخاذ الأروقة في عمارة المسجد الحرام لم يكن إلا في عمارة عبدالله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ إذ إن الأزرقي عندما تحدث عن عمارة عثمان بن عفان لم يشر إلى اتخاذ الأروقة في توسعته للمسجد الحرام، وهو ما نص عليه الفاكهي صراحة بقوله (وقال بعض المكيين كان المسجد الحرام على ما جعله عليه عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ بحائط قصير غير مسقف وإنما يجلس الناس في المسجد بالغداة والعشي يتبعون الأفياء فإذا قلص الظل قامت المجالس، وهذا النص ذكره الأزرقي في مبدأ حديثه عن عمارة عبدالله بن الزبير دون الإشارة إلى عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ بل إنه ينقل عن جده ما يفيد بأن ابن الزبير سقف المسجد، وأنه كان لا يدري هل سقفه كله أم بعضه فاستخدام التسقيف والأعمدة في هذه العمارة يشير بوضوح إلى ظهور الأروقة في المسجد الحرام منذ عمارة ابن الزبير رضي الله عنه.
وأشار الدكتور الحارثي إلى أن المعطيات التي توفرها المصادر التاريخية عن هذه العمارة والعمارات الأموية التي جاءت بعده (عمارة عبدالملك بن مروان وعمارة ابنه الوليد) لا تمكن من تقديم تحديد دقيق عن عدد الصفوف في هذا الرواق وإن كان من المرجح أنها لا تزيد على صف واحد مثلما كانت عليه عمارة أبي جعفر المنصور للمسجد الحرام سنة 138/755، التي شملت توسعة للمسجد الحرام من ضلعه الغربي ومعظم الضلع الشمالي، وبني للمسجد الحرام رواق يتكون من صف واحد من الأعمدة المطلة على صحن المسجد الحرام.
وبين أستاذ الحضارة الإسلامية أن عمارة المهدي العباسي جرت على مرحلتين الأولى سنة 161/777 والأخرى سنة 164/780 وفيها أصبح عدد صفوف الأروقة 3، ولم يتغير عدد الصفوف على الرغم من أنه أضيفت للمسجد الحرام توسعتان أخريان، وكل من هاتين التوسعتين كانت عبارة عن إضافة مساحة جزئية ملتصقة بأحد أضلاع المسجد الحرام، حيث أضيفت مساحة دار الإمارة (الندوة) للمسجد الحرام، وربطت بالضلع الشمالي للمسجد الحرام، وكانت تتكون من أربعة أضلاع بكل منها رواق من صفين من الأعمدة، ويتوسطها صحن مكشوف، والزيادة الثانية كانت عبارة عن إضافة مساحة ربطت بالطرف الجنوبي من الضلع الغربي، ولها تكوينها المعماري حيث إنه لم يكن لها رواق غربي، وإنما لها رواق شرقي وشمالي وجنوبي، وبالموضع الغربي باب وهو باب الزيادة (أي زيادة باب إبراهيم) وكل رواق منها صف واحد.
إعادة بناء
ومضى الدكتور الحارثي يقول في تصريحه إلى "الوطن": ظلت هذه الأروقة على حالها ولم يطرأ عليها تغيير في عددها أو تكوينها المعماري، ولم تشهد سوى ترميمات وإعادة بناء لبعضها أو كلها في عصور تاريخية مختلفة من أبرزها ما حدث سنة 802/1399، حيث احترق رباط "رامشت" الملاصق للمسجد الحرام من الناحية الغربية مما أدى إلى انتقال النار للرواق الغربي من المسجد فالتهمته بالكامل واحترق معه جزء من الضلع الشمالي وصولا لباب "العجلة" ويصف الفاسي آثار هذا الحريق بقوله (صار ما احترق من المسجد الحرام أكواما عضاما تمنع الناس من الصلاة في موضعها ومن رؤية الكعبة فتصدى لهذا الخراب الأمير المملوكي بيق الضاهري وعمره في مدة يسيرة، حيث قدم حاجا في موسم سنة 803/1401 ومكث بعد رحيل الحجاج في مكة المكرمة ثم شرع في إعادة الرواقين بهمة عالية وعمل أساطين من حجارة بدلا عن أساطين من الرخام التي احترقت، كما أصلح ما هو قابل للإصلاح منها، وأتم تسقيف كل ذلك في موسم سنة 804/1402)، ويعلق الفاسي على ذلك بقوله: وعجب الناس كثيرا من سرعة عمارة ذلك في هذه المدة لأن من رأى ذلك قبل عمارته كان يقطع بأن هذه العمارة إنما تنهض في مدة سنتين باعتبار العادة في العمارات".
وقال الدكتور الحارثي: شهدت الأروقة أعمال إصلاح مهمة في عصر السلطان المملوكي الأشرف برسباي من أبرزها ما حدث سنة 830/1426، حيث أعيد بناء بعض العقود في الرواق الشرقي بالقرب من باب الجنائز، وأخرى في الرواق الشمالي بالقرب من باب العجلة، مشيرا إلى أنه في العصر العثماني شهدت الأروقة أعمال بناء وترميم مختلفة، من أبرزها كانت العمارة التي أمر بها السلطان سليم الثاني وأتمها بعده ابنه مراد الثالث، حيث ترتبت عليها إعادة بناء المسجد الحرام بشكل كامل، إذ جرى تغيير سقوفه دون أن يترتب على ذلك تغيير في نظام أروقته التي بقيت على ثلاثة صفوف مما يؤكد بقاء عمارة أروقة المسجد الحرام على نظامها العباسي القديم، ويصف المؤرخ المكي حسين باسلامة هذه العمارة بقوله "فشرع القائمون بالعمل على هذا المنوال، وأنشؤوا في أول ركن من الرواق الأول دعامة قوية بنيت بالحجر الشميسي الملون إلى آخر هذا الصف من الرواق الأول مما يلي جدار المسجد الحرام من الجهة الشرقية، ثم شرعو في الصف الثاني من الرواق فجعلوا بين كل ثلاث أسطوانات عباسية من الرخام المرمر دعامة من الحجر الشميسي ثم أسطوانة من الرخام المرمر كذلك ثم دعامة من الحجر الشميسي الملون إلى آخر هذا الصف من الرواق الأول مما يلي جدار المسجد الحرام من الجهة الشرقية ثم شرعوا في الصف الثاني من الرواق فجعلوا بين كل ثلاث أسطوانات من الرخام المرمر دعامة من الحجر الشميسي على شكل مثمن الأركان ثم الصف الثالث من الرواق الثالث والرابع أيضا على هذا المنوال، ثم بنيت القباب على تلك الأسطوانات والدعائم في سائر المسجد الحرام، وساقوا تلك الصفوف على خط مستقيم وأزالوا ما كان من إعوجاج".
وأشار أستاذ الحضارة الإسلامية إلى أنه يوجد في بعض جهات المسجد الحرام بين كل أسطوانتين من الرخام دعامة من الحجر الشميسي، وبعض الصفوف يوجد فيها من الأسطوانات المنحوتة المعمولة من الحجر الصوان على شكل مثمن، والظاهر أنها من بقية الأساطين التي عملت بدل الأساطين الرخام التي احترقت سنة 802/1399، فكملوا بها النواقص من الأسطوانات وهي واقعة في الجهة الجنوبية من المسجد الحرام بين باب "بني تيم" وباب "البغلة"، أما الدعائم المربعة والمسدسة المبنية بالحجر الصوان والحجر الشميسي الملون فأغلبها واقع في الصف الرابع من الجهات الأربع من رواق المسجد الحرام، مما يلي جدار المسجد المحاط به التي بها الأبواب، أما الثلاثة الصفوف التي بعد هذا الصف فعملها على نسق واحد بين كل ثلاث أسطوانات من الرخام دعامة من الحجر الشميسي مثمنة الأركان، والصفوف الثلاثة في الأروقة كانت تقل ويتراجع عددها عندما تواجه بعض الأبواب الرئيسية للمسجد الحرام خاصة تلك التي تقع عند الأركان، فيكون بعضها من رواق واحد أو رواقين ومنها ما يبقى على حاله ثلاثة أروقة.
وأبان الدكتور الحارثي أن الدولة السعودية أضافت للمسجد الحرام توسعتين رئيسيتين نجم عنها أن زادت مساحة المسجد الحرام بشكل يفوق كثيرا ما كان عليه في السابق والتصميم الرئيس لهاتين التوسعتين عبارة عن صالات مضلعة مربعة ومستطيلة تحيط بها الأعمدة في شكل صفوف طولية وعرضية بحيث أحيطت كل صالة بصف من الأعمدة من جهاتها الأربع في حالة الصالات الأمامية، أما الخلفية الملاصقة للجدران فإنها جاءت محاطة بالأعمدة من الجهات التي يوجد فيها جدران للمسجد الحرام، كما ترتبت على التوسعة الأولى إزالة بعض الأروقة القديمة وعلى الأخص زيادة الندوة وكذلك زيادة باب إبراهيم بالإضافة إلى صيانة ما بقي منها وهي المحيطة بالمطاف.
وظائف الأروقة
وأكد الدكتور الحارثي أن الوظائف الأساسية للأروقة كانت توفير أماكن مظللة للصلاة، فكان بعض العلماء والصالحين يتخذون لهم أماكن محددة للصلاة داخل هذه الأروقة، وقال "هناك أسطوانة عرفت بأسطوانة ابن جريج نسبة إلى العالم عبدالملك بن جريج لأنه كان يصلي عندها، وكان سفيان الثوري يصلي فروضه وتهجده في الرواق المقابل لدار الندوة، ويذكر جارالله بن فهد أنه كان لقاضي مكة الشافعي الصلاح بن ظهيرة مصلى بالرواق الشمالي، وكان من عادة المكيين أن يصلوا التراويح جماعات متعددة، فلكل منهم إمام"، ويصف إبراهيم رفعت هذه الظاهرة بقوله "ويجتمع الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة بالمسجد الحرام في صلاة التراويح ويحصل بسبب اجتماعهم التشويش على المصلين، وكانت بعض هذه الجماعات تؤدي صلاة التراويح في أروقة المسجد الحرام".
وبين الحارثي أن الأروقة كانت أماكن تمارس فيها بعض الأمور الإدارية والمالية إذ كانت تقرأ بعض المراسيم التي تصدرها الدولة في بعض هذه الأروقة بحضور الأعيان وأركان الدولة في مكة المكرمة، كما كانت توزع صدقات الأوقاف القادمة من خارج مكة المكرمة وتحت إشراف الدولة في هذه الأروقة، ومن أمثلة ذلك ما حدث في سنتي 933/1525 و938/1531 حيث وزعت الصدقات والمبرات على أهل مكة في الرواق الغربي من المسجد الحرام.