عملت في التعليم العام لمدة ثماني سنوات، معلما للتربية الإسلامية، سبع منها في المرحلة الثانوية وسنة في المرحلة المتوسطة (2000 /2008). كانت هذه التجربة أهم تجربة في حياتي الفكرية وأعمقها أثرا. باختصار لأني عرفت فيها أعمق مستويات التواصل الإنساني. المكان الذي يعتبره الكثير من المعلمين سبب مرضهم كان مكانا للتشافي بالنسبة لي. عندما أحكي عن التعليم أو المدرسة هنا فأنا لا أعني الإدارة ولا الزملاء المعلمين، ولكني أعني الطلاب تحديدا. الصف الدراسي كان هو المكان الأكثر أثرا وصدقا. على مرّ ثماني سنوات كنت جسما غريبا في جسد التعليم، الكثير من المضايقات والمشاكل حدثت تحديدا من زملائي معلمي التربية الإسلامية وبعض المديرين والمشرفين. في المقابل حظيت بعلاقات طيبة مع عدد من الزملاء وبحب عميق من الطلاب. رغم كل المشاكل كان الطلاب هم سرّ سعادتي كمعلم. ردود فعلهم كانت هي المهمة، كلماتهم هي الكلمات الحقيقية، جوائزهم وهداياهم كانت هي الأغلى في حياتي كمعلم.

بدأت رحلة عملي في متوسطة تربة الشمال، مئة وثمانين كيلومترا شمال مدينة حائل. كمتخرج جديد قليل الخبرة وصلت بمعلومات في رأسي كافية لتدريس الفقه والحديث والتفسير والقرآن ولكن بمهارات محدودة وضيقة للتواصل مع البشر. ما تعلمناه في كلية التربية بجامعة الملك سعود (المكان الذي أعمل فيه حاليا) كان يتلخّص في كيفية توصيل المعلومات للطلاب. لم نتعلم كيف نربي الطلاب، كيف نفهمهم، كيف نسمع لهم، أو باختصار كيف نتعلم منهم. تجربتي كطالب لم تساعدني أبدا، فقد كنت كغيري من الطلاب كائنا لا مرئيا، لا أحضر في الصف إلا كموضوع للمعلومات، كمستودع للمعلومات يخزّنها المعلّم على طول الفصل الدراسي ثم يطلب منّا إعادتها له في آخر الفصل. كنّا ـ كما يقول المربي البرازيلي فريري ـ حسابات بنكية يودع فيها المعلمون المعلومات ليسحبوها لاحقا ويبقى الحساب خاليا. رغم حبي لتجربتي في تربة إلا أن ضيق تجربتي ومعرفتي حجب عني القيمة الحقيقية للتربية والتعليم. كنت سعيدا بعملي، أستيقظ في الصباح مبكرا وأنطلق لعملي بكل نشاط، ولكن كل طاقتي كانت مسخّرة للدور التقليدي للمعلم، الدور التقني، دور ناقل المعلومات. أغلب طلابي كانوا من أسر للتو انتقلت للمدينة أو لا تزال في البادية. في مثل هذه الظروف يأتي الطلاب بمهارات عملية عالية، تجربة في الحياة قيّمة بالنسبة لأعمارهم، بالعادة يتحمّل أولاد البادية المسئولية مبكرا. التصاقهم بالطبيعة المباشرة والغذاء الصحي الطبيعي يجعلهم أكثر ذكاء وصحة. لم أر هذا كله بسبب ضعف قدرتي على الرؤية، لم أر إلا أطفالا في الصف معزولين عن سياقاتهم الثقافية والاجتماعية. لم أر أيضا مشاكلهم، فقر أسرهم، ضعف التحفيز على التعليم، مشاكلهم الأسرية، العنف الذي يتعرضون له داخل وخارج المدرسة. لم أر كيف هو مؤلم التعليم لهم حين يعزلهم عن حياتهم، لم أر أحلامهم وطموحاتهم. باختصار لم أعرفهم ولا أظنهم عرفوني.

خلال تلك السنة كنت مشتغلا بالقراءة في الفكر والأدب وفنون مختلفة. قرأت الأيام لطه حسين ووجدت رؤى مختلفة عن التعليم والتربية. سمعت صوت الطالب في زمن لا تسمع فيه إلا أصوات المعلّمين. سمعت شكواه من ضيق أفق معلميه ومن عجزهم عن رؤيته وفهمه، عن تشبّثهم المرَضي بتقاليد بالية تحصر علاقتهم مع طلابهم في مساحة ضيقة جدا من نقل المعلومات. سمعت شكواه من تعليم بلا تواصل. في ذات الوقت كنت أقرأ الأدب والروايات العالمية لأرى فيها معاني إنسانية تفتح العين والقلب لرؤية الإنسان بكل تفاصيله. أعمال تنطلق من رؤية مفارقة للإنسان، الإنسان الحر الثمين. الكل حرّ وتجربته في غاية الأهمية، لا توجد تجربة بلا قيمة ولا يوجد إنسان بلا معنى. بدأت هنا أرى طلابي كبشر، ككائنات حرّة يجب أن تحترم حريتها، وككائنات ثمينة لها معرفتها المهمة في الحياة. لم يعودوا موضوعا لي، بل أصبحوا كائنات مستقلة، شركاء لي في تجربة ثرية لا حقا ستساعدني على معرفة نفسي أولا.

انتقلت في السنة اللاحقة إلى مدينة حائل في ثانوية الفاروق، إحدى أكبر الثانويات وأشهرها في الفوضى وعدم الانضباط. وكالعادة، رمى المعلمون القدماء "أسوأ" الصفوف في جدولي (الثاني ثانوي شرعي). كان الجميع يشتكي من هذه الصفوف ويعتقدون أنها عصية على الضبط، فما بالك بالتعليم. وبالفعل كانت الأسابيع الأولى من التعامل مع هذه الصفوف مرهقة ومؤلمة. كالعادة كانت أولى الحصص بمثابة العقد بين المعلم والطلاب. في البداية طلبوا مني اختصار المنهج في عدد من الصفحات لا أكثر ورفضت. قلت لهم لن أتنازل عن النظام والاحترام في الصف وعن كونه مكانا للتعلّم وليس مكانا للنوم. كنت أحضر في الصف من أول دقيقة إلى آخر دقيقة وأعمل بجد. كان بعضهم يستمتع باستفزازي بكافة الأشكال ويحاول إعاقة عملي كمعلم. في وسط هذه الأجواء كلها عوامل مهمة لم أتنازل عنها: انضباطي في عملي، حزمي تجاه محاولات تحويل الصف إلى فوضى، والأهم من هذا حبي واحترامي للطلاب. باختصار لم أتوقف عن الإيمان بهم، لم أقطع الأمل، لم أقل لهم إنهم أغبياء أو غير صالحين للتعلم، بالعكس كنت أراهن على ذكائهم وقدرتهم على النجاح. لاحقا صدّقوني وتحولت تجربتي مع "أسوأ" الفصول في ثانوية الفاروق إلى إحدى أجمل تجاربي. كانت إحدى أجمل التجارب، لأننا باختصار وصلنا إلى علاقة إنسانية. علاقة حوار حر يحاول كل واحد منّا أن يظهر كما هو بدون كذب وتزييف. كانت تجربة جميلة، لأن الصف أصبح مكانا آمنا خاليا من العنف الجسدي واللفظي. أصبح الصف مكانا محفّزا للمستقبل. مكانا تولد فيه الأحلام ولا تموت. كان الصف مكانا للتخفيف من قسوة الخارج، من قسوة الأسرة والمدرسة والمجتمع. كان مكانا للأمل في عالم من الإحباط. كنت ألجأ لهم ليعطوني أملا، ولم يخيبوا ظني. في الأسبوع القادم لنا لقاء مع باقي الذكريات.