تلك الفترة الانتقالية كانت قد سبقتها الفترات الماضوية التي أتحدث عنها، حيث كانت فترات ليست بالقديمة جدا، بيد أنها كانت تتمتع بشيء من عبق فترة الستينيات والسبعينيات، التي كانت تُشكل البناء الفكري والتصوري لكثير من أفراد المجتمعات. كانت القيادة الفكرية غير الرسمية لعموم المجتمعات تتمثل فيما يبثه الإعلام من أفلام ومسلسلات، وما تُسطره الصحف والمجلات من رؤى وأفكار، يتخذها أفراد تلك المجتمعات اتجاهات لرؤاهم وتصوراتهم عن الحياة. وهذا التشكل يكون في مستويات هرمية، بحسب الهرمية المجتمعية، وذلك أن هناك مستويات هرمية لا تقرأ الصحف والمجلات، ولا تستمد معارفها من خلال الخبرات ذات القراءات المعمقة، بل كانت تستمدها من خبراتها الذاتية، ومدى قربها أو بُعدها ممن يكون متصفا بالإطلاع والقراءة. هذا التفريق مهم جدا، لفهم حركة مجتمعاتنا المعاصرة، وكيفية فهم مشكلاتنا، من أجل طرح الحلول ذات القيمة التي تُعالج تلك الإشكاليات، فعندما تمر تلك اللحظات، من خلال تلك الدواخل النفسية، أجد أنها أحيانا تمر مرورا ثقيلا، وكأنها بتصوير الحركة البطيئة، وكأن تلك اللحظات تريد أن تخاطب شخوصها بأن ما حدث في تلك اللحظات ما كان ينبغي أن يحدث على تلك الهيئات والتشكلات، وما كان ينبغي لتلك المعاني التي صاحبت تلك اللحظات أن تكون مصاحبة لتلك التفسيرات التي تمسك بها شخوص تلك اللحظات، وبنوا عليها قراراتهم المصيرية التي شكلت حيواتهم التي ألزموا أنفسهم بها، وألزموا من تحتويه رعايتهم بها. تلك مقاطع وتصورات من دواخل نفسية تحدث أمامي عادة، فمثلا ما يحدث من هلع وخوف من سيطرة بعض أصحاب القوة خارج النظام في تلك الحواري، وفي تلك الأزمنة الماضية، كان شيئا مأساويا، حيث كان القوي يفترس الضعيف في تلك الحواري، وكانت تقع كثير من الأفعال المشينة من تصرفات غير أخلاقية لكثير من أبناء تلك الحواري، ولا أحد له القدرة على التحدث في تلك الأخطاء والتصرفات، وذلك بسبب سيطرة اللاأخلاقيين على زمام الأمور. ولم يكن يوجد من يستنكر تلك التصرفات والأفعال غير الأخلاقية، وهو أمر محير للغاية، ولما أجد من فكك أسرار تلك التصرفات والوقائع، حيث كانت كثير من الحواري المجتمعية تعج بتلك التصرفات غير الأخلاقية، بل كان أولئك غير الأخلاقيين يفتخرون بأفعالهم وتصرفاتهم. تلك التصرفات لا تزال موجودة، بيد أن عصر التقنية السريع كان كاشفا لها، وليس مؤسسا لغايتها وأهدافها، وذلك أن التصرفات والأفعال، من حيث وجودها، تكون إما تصرفات وأفعال تُخلق وتنشأ من العدم، وهذه تُسمى «أفعال مؤسسة جديدة»، وإما تصرفات وأفعال تكون موجودة في الأصل، بيد أنها لا تُرى للكثيرين، فيتم إخراجها للعلن، وتصبح ظاهرة وبادية للعيان، فهذه الأفعال ليست مؤسسة ومنشأة من العدم في لحظة ظهورها، لكن تلك اللحظة كانت كاشفة لها بشتى وسائل الكشف للظهور للعلن. هذا التفريق بين التصرفات والأفعال المؤسسة والكاشفة قاعدة منهجية مهمة في التفكير، خصوصا في فهم المسائل العلمية، سواء الفقهية أو الأصولية أو النحوية أو حتى التاريخية. كنت أقرأ عن التصرفات اللاأخلاقية كثيرا في كتب التاريخ المليئة بالتراجم والسير الذاتية، وهناك فرق دقيق بين الترجمة والسيرة الذاتية، حيث إن كلمة «ترجمة» يجري المصطلح على استعمالها لتدل على تأريخ الحياة الموجزة للفرد، وكلمة «سيرة» يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسهب للحياة، فالذاتية هي التي تصور لنا أبعاد كاتبها من الداخل والخارج من خلال رؤيته هو، المسلطة على ذاته المكتوبة بقلمه، وتحقق له التوافق والاتزان إذا تيسر له أن يعيش حياته الداخلية والخارجية والعليا من خلال ذكرياته، والكشف عن أسرار حياته، وتأمل ذاته العميقة، بما فيها من ثراء وخصب داخلي. وقد نشأ الصنفان في حضن التاريخ، وكلاهما يمثل تاريخ حياة شخص ما، وما أعنيه هو الحديث عن الدواخل النفسية، وما يدور من أحداث في دواخل نفس المترجم له أو كاتب السيرة الذاتية.
كانت تلك السير الذاتية تأسرني كثيرا، وأتوقف - متأملا بعمق - عند أحداثها وشخوصها وتشكلاتها الزمانية والمكانية، سواء كانت القديمة منها أو الحديثة، فمثلا كتاب «الجبرتي»، وهو يحكي تاريخا قريبا، يصور الحياة في مصر، وما يدور فيها من أحداث واقعية، وكيفية التغيرات الاجتماعية من خلال الحياة اليومية. وهذه المراجع التاريخية للوقائع هي مصدر ثمين لفهم العناصر المكونة للمجتمعات، وفهم كيفية جريان الأمور في الواقع المعاصر، بيد أن هذا الأمر يتطلب تفرغا تاما، ومراكز بحوث، ودراسات متخصصة حقيقية، تسعى لرفع جميع مستويات الحياة، ومليئة بالكفاءات، وبشرط أساسي أن تكون ليست تجارية، وليست ممنهجة بنهج سياسي، وهذا مطلب كل مثقف يتوق إلى المعرفة والثقافة، بيد أن هناك عوائق وعواقب تحول دون الوصول لتلك الأمنيات، وبسبب عدم تحقق تلك الأمنيات، فإن كثيرا من الظواهر السلبية التي تقبع في مخيلتنا وذكرياتنا القديمة لن تتم إعادة كشفها، وبيان خللها، لتسهيل الواقع والمستقبل، بلا تكرار لأخطاء ماضوية لا تزال شاخصة أمام دواخلنا الذاتية والنفسية إلا بعد فحص تلك الظواهر، وإعطاء الفرصة للباحثين في تلك المراكز الحرية المطلقة في البحث والاستدلال والنظر في كل مكونات المجتمع، للخروج بأعمق الدراسات الحقيقية التي لها فاعلية وتأثير في حياة الفرد البسيط العادي.