ما زلنا نجد اليوم من يزوّر في تاريخنا وهو يحدث، فكيف بالذي حدث! يقول الدكتور أحمد داود: "لم يلقَ تاريخُ شعب من الشعوب أو أمّة من الأمم من ضروب المسخ والتشويه والتزوير مثل ما لقيه تاريخ أمتنا على مدى هذين القرنين الأخيرين من قبل خصومها والطامعين فيها"، ولكن ولله الحمد ظهر في الكثير من أوطان أمتنا العربية من تصدى لهم وبين الحقائق بالدلائل الموثقة التي لا تقبل الشك من خلال القراءة الصحيحة للحفريات والآثار وترجمتها الترجمة الصحيحة المبنية على معرفة بالحضارات العربية القديمة وتطور لهجاتها وكتاباتها، وهذا ليس إلا عن معرفة بأصل اللغة العربية الخالدة بلهجتيها العرباء والسريانية، وتطورها مع تحرك الشعوب العربية على أراضيها واحتكاكها بالحضارات الأخرى، ولكن بما أننا للأسف أصبحنا شعوبا لا تقرأ، يخرج إلينا بين الحين والآخر، من بني جلدتنا، من يحاول تشويه تراثنا، سواء عن قصد أو جهل، ما يهم هنا أنه أمر لا يمكن السكوت عنه!

آخر ما تمخض عنه الفكر العربي؛ مهاجمة تراثه! أحدهم استنتج بطريقة ما أن قصة قيس وليلى لم تكن سوى أسطورة أخذت من التراث العقائدي اليهودي، وهكذا وبكل بساطة حُذف شاعر من تاريخ الأدب العربي لمجرد تشابه في الأسماء! وتشابه بين من ومن؟ بين ليلى العامرية و"ليليت"! كيف يخطر على بال أي عربي أصيل خرج من بطن أم عربية أن يجمع بين الطهر والعفة والأصالة (وهنا أنا أعمم قاصدة المرأة العربية) وبين ابنة الظلام ومثال العهر والانحطاط، من عملها إغواء الرجال وقتل النساء أثناء الولادة وافتراس الأطفال، من تقوم على نشر الفساد بين البشر، وأوصاف أخرى يأبى قلمي ذكرها، بكل بساطة تم القياس والمقارنة ومن ثم الحكم والتعميم!

وحسب المنطق الذي استخدم، بما أن ليليت هي ليلى بالعربية، إذا لا بد أن تكون هي الأخرى أسطورة وعليه من أحبها هو أيضاً جزء من هذه الأسطورة، إذاً قيس لم يكن سوى أسطورة هو الآخر بحسبه ونسبه وجذوره المعروفة التي وصلتنا، مسخ عن مسخ! لماذا؟ لأن من لم يقرأ التاريخ وتابع قصص آلهة الشعوب العربية القديمة، وهنا لا أعني الجاهلية، ولكن آلاف السنين قبلها، بالتأكيد لا يعرف شيئا عن الميثولوجيا السريانية والسومرية والبابلية والأشورية والكنعانية، والإغريقية والرومانية، نعم ولا حتى لديه أدنى فكرة عما ورد في العهد القديم والتلمود، ولو أنه كلف نفسه وقرأ تاريخ اليهود في بابل ودرس تلك الفترة وتعمق لوجد كيف تحولت عشتار آلهة الخصوبة والأرض، عشتار "أم الزلوف" التي كانت تتزين مع كل ولادة ربيع بالثمار والزهور، كيف تحولت بين أيديهم إلى ليليت! ونجد نفس المعنى عن التشويه بكتابة عبدالله العلفي وهو يسرد تاريخ ليليت: "في المثيولوجيا السومرية كانت ليليت إلهة المهد الراعية للأطفال في ظلمة الليل الحالك كشعرها الأسود الطويل. سميت أم الصبيان في كثير من المناطق اليمنية. هي الأنثى ذات الصدر والورك المستديرين، رمز الخصب التي تدعوها الأم مساءً لتحمي رضيعها الصغير في إغفائه بعينها الساهـرة المقدسـة. وهذه العين الزرقاء ما زالت تستخدم حتى اليوم في تعويذات تضعها نساء الشام التقليديات دون وعي لأصلها المثيولوجي كي تدرأ الحسد. وكانت الربة عنات أو إنانا في مثيولوجيات شعوب أخرى، هي عدوتها التي تحالفت مع الذكور من الآلهة لتحطيم شعبيتها، فشوّهت سمعتها لتصبح ليليت التي غنت لها النساء منذ ستة آلاف سنة فوق أسرّة الصغار، الأغنية الشعبية المتداولة حتى الآن: "يا ليل يا عين"..، غولة تفترس الأطفال وتغوي الرجال، فالتقط يهود ذاك الزمن الخيط وأكملوا مسيرة التشويه وأدخلوها في تراثهم العقائدي ربما انتقاما ممن سباهم".

الذي أريد أن أبينه هنا خطورة ما يفعله البعض في تراثنا عن قصد أو عن جهل، اليوم قيس وربما غدا الزير سالم أبو "ليلى" المهلهل، وبعده عنترة وثم من يدري! ماذا سنترك لأبنائنا من الأجيال القادمة من تراث جميل وعظيم؟! ألا يكفي أنهم يجهلون تاريخهم القديم وحضاراتهم الأولى التي كانت وستظل مسرحا للتزوير والسرقة، طالما نحن تركاناها لهم بكل نفس رضية! لقد شوهوا تراثنا وجاء منا من أخذ التشويه وقاس وبنى وعمم! إن الأمر لا يتعلق بتراث فقط، إنه ذاكرتنا وتاريخنا، إنه لغتنا وجذورنا، وليس لدي أفضل مما قاله الدكتور أحمد داود وهو يوجه حديثه للغرب، لأنهي به لعل رسالتي تصل: "بذلتم كل ما استطعتم من أجل طمس هذه الذاكرة، أعدتم كتابة التاريخ وحذفتُم منه أسماءنا نحن الذين منحناكم أسماءكم وعلمناكم كيف تكتبونها لأول مرة، واخترعتم على أنقاضنا شعوباً وأعراقاً وقبائل وكذبتم في كل ما تقوّلتم، وجعلتم حقائق التاريخ تمشي على رؤوسها، وسعدتم كثيراً بفعلتكم تماماً كسعادة ذلك الخنزير البرّي الذي أخذ يعدو في حقل من القمح ويموج دماراً بالسنابل، ذهب الخنزير البرّي وبقي الحقل، وبقيت حبّات القمح حاضنة للذاكرة".

نعم.. نحن حبّات القمح، نحن الذاكرة.. وطالما أن هنالك دما عربيا يجري في عروقنا؛ لن نسمح لهذه الذاكرة أن تُزور.