يُمثل موضوع المصادر أهمية خاصة في النظرية المعرفية لأي نسق علمي، فهو حجر البناء لأي تراكمات عقلية لتلك الأنساق، إذ من المصادر المعرفية تُستقى المعارف والأدلة. غير أنَّ مفهوم المصدر يشوبه بعضُ الغموض في تحديده، وحوله آراء عدة وتصورات مُختلفة، فإذا تتبَّعنا طرحَ مصطلح مصادر المعرفة في الكثير من البُحُوث نجد أن اختلافًا بل اضطرابًا في استعماله اللغوي، وتداخلاً مع مفاهيم أخرى، مما يُوقع في إشكالات فكرية للمُدقق في لفظة المصدر، وتصورات خاطئة للمطالع، فقد وقع بعضُهم فيما يعد خلطا أدى إلى التباس بين المصادر والميادين مثلاً، ومنهم من يَميل إلى الإجمال، فيجعل الله تعالى مصدر المعرفة والوحي أداة، بل إن تصنيف المعرفة إلى ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، هو واقع خلاف علمي بين علماء الاجتماع والفلسفة والتربية والاعتقاد، وهي الميادين التي تبحث هذا الموضوع عادة. بل إن الاختلاف في تصنيف المعرفة يختلف باختلاف المعرفة الدينية والزمانية والمكانية والثقافية، وأدى ذلك إلى التمازج بين مصادر المعرفة ومصادر الأدلة لدى علماء المسلمين، فهناك من يفرق بينهما تفريقاً ظاهراً وهذا قليل، والأغلب من يمزج بينهما (وذلك من خلال الاستقراء لكتب الأصول والفلسفة وعلم الكلام). بيد أن هناك تمييزاً واضحاً لدى علماء الكلام في المعرفة اليقينية والظنية، وقد رتبوا على ذلك أحكاماً في الاعتقاد والفقه وقواعده، من مثل مسألة قبول خبر الواحد في الصفات، ومسألة البناء على اليقين في مسائل الفقه، بل إن الفقهاء قاطبة أسسوا قاعدة كلية جعلوها من القواعد الخمس، وهي اليقين لا يزول بالشك، وإن كانوا قد اختلفوا في تفاصيلها الجزئية وهذه طبيعة العلوم المعرفية النظرية، فلا يوجد فيها يقين قاطع مطلقاً إلا حقيقة موجد المطلقات اليقينية، وإن تحقيق القول في مصادر المعرفة الإنسانية مجردة دون ارتباط بدين أو ثقافة أو زمن أو مكان، لهو موضوع يحتاج إلى جرأة علمية في مناخ حرية علمية متجسدة على أرض الواقع يلمسه العامة قبل الباحثين والأكاديميين، وهذا لَمَّا نجده بعدُ، مما يجعل الباحث يُرجئ بحوثاً وكتاباتٍ لحين توفر تلك الأجواء التي يستنشق خلالها الكاتب والمثقف الحرية العلمية دون رقيب. العلوم المعرفية لدى التيارات الفكرية عموماً ومنهم التيارات المتأسلمة، تستند إلى أصل وجودها وتمحورها حول النص في أغلبها والعقل لدى بعضهم أحياناً. التاريخ المعرفي في حقيقته يضمر بداخله المصادر التي تستند إليها تلك المعرفة، وكان سؤال مصدر المعرفة قديما لدى فلاسفة اليونان متقررا ومعروفا في كون المعارف مترسخة في الأذهان، أم هي صور ما بالخارج من أشياء ثم تنطبع في الأذهان، (وأظن أن معرفة تلك النظريات مثل نظرية الصور وغيرها لم تعد ذات جدوى معرفية وما البحث فيها وتأسيسها في عصرنا المعرفي التقني إلا ترف زائد عن العلمية والمعرفية الذاتية، وهي نظريات غاية في الصعوبة في الفهم وتحتاج إلى جهد مضاعف لفهمها فضلاً عن شرحها للطلاب المتلقين). بيد أن سؤال المعرفة ومصادرها لدى العلماء المسلمين لم يرد إلا بعد ترجمة كتب الفلسفة، ومن ثّم بدأت تلك الأسئلة الفلسفية ترد إلى المعارف الإسلامية وخصوصاً بعد مزج الكثير من العلوم الفلسفية مثل المنطق والحدود والأقيسة الفلسفية في علم أصول الفقه. ثم ظهر جليا أن هناك مزجا بين مصادر الإسلام والمصادر المعرفية، فأصبحت المعرفة تتأسس على مصادر الإسلام المعرفية وهي كثيرة جداً، وخصوصاً إذا ما اطلعنا على ألوان الطيف الأصولي في كيفية الفهم المعرفي لتلك المصادر، فقد وجدت مصادر معرفية متفق عليها بين أصحاب العلم الأصوليين والمنطقيين ممن ألفوا في كتب المنطق، كعلم آلة مساعد للعلوم المعرفية الأخرى، وهي ما يسمونه أسباب العلم، وهي الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل السليم (نظراً لأن مصادر المعرفة لم تكن مفردةً بتأليف قديما بل كانت مضمنة لكتب أصول الفقه والتوحيد لدى المتكلمين، فقد تم الاستناد إلى كتب الأصول لاستخراج تلك المصادر)، فقد أصبحت مصادر العلم المتفق عليها لدى الإسلاميين هي الكتاب والسنة والإجماع من حيث الجملة، وهي متمثلة في الوحي وما استمد منه (على اختلاف واضح بين العلماء في قبول الإجماع كمصدر مستقل، فقد أنكره جملة من علماء الأصول مثل الإمام الشوكاني). وهناك مصادر أدلة مختلف فيها في اعتبارها أدلةً ومصادر للمعرفة الدينية الإسلامية وهي القياس والمصلحة والاستحسان وقول الصحابي، وهذه جميعها مردها إلى الوحي أو الخبر الصادق الذي يُعتبر سبباً من أسباب العلم، فتكاد تتفق جميع المرجعيات الإسلامية السنية على أن الوحي هو المصدر الحقيقي للمعرفة، أما مصدرية العقل فإنها تكاد تتردد فيه كثيراً، فهو مصدر متنازع في حجيته بينهم، فمن اعتبره حجة ومصدرا تشريعيا كان اعتباره حجة للمعرفة من طريق أولى، ويتمثل هذا النهج لدى كثير ممن تبنى الفكر الاعتزالي، وإن كان في الأصل أنه ينهج نهجاً سنياً (كما نسب للماوردي الاعتزال، وقال عنه ابن حجر له مسائل وافق اجتهاده فيها مقالات المعتزلة، ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال)، بل إن مصدرية العقل قد ألف فيها ابن تيمية كتاباً ضخماً في موافقة العقل السليم للنقل الصحيح وسماه درء تعارض العقل مع النقل، وهو كتاب ممتع جداً، استفدتُ منه كثيراً ولا أزال أتردد عليه إلا أنه يحتاج إلى تنقيح وتوضيح وتفكيك لمسلماته ونقد حقيقي لما تضمنه ولمنهج مؤلفه لما في أسلوبه من استطراد يكاد يقضي على أصل فكرة كل موضوع، ولما في أسلوبه من اختصارات لمواضيع شائكة ومعقدة وليست مفهومة إلا في مقام التنزيه العقدي والرد، وهي مسائل عميقة جداً وتحتاج في فهمها إلى الرجوع لأصلها الحقيقي المنتزعة منه، وهذا لا يكون إلا في مناخ الحرية العلمية والأكاديمية. وقد كنتُ أتهيب نقد ابن تيمية لما له من المريدين الذين لا يقبلون أي نقد له، إلا أنني لما وجدت العلامة اللغوي المفسر والأصولي ابن عقيل الظاهري قد وجه نقداً يدل على معرفة تامة بكتب ابن تيمية حيث قال (وفيها أسفار يتعذر عليه فهمها، ويتعذر عليه ردها إلى مصادره، وهو رحمه الله ينقل أقوال الفلاسفة بسرد كثير، وتعليق ضحل، ويرد برد بعضهم على بعضهم، وهو غير مستوعب لفكرهم، ويردُّ بما فهمه من فكرهم، والفلسفة والمنطق عنده كحب الشعير مأكول ومذموم، والفهم لفلسفتهم ومحاكمتها عند المعاصرين أجود، وعُسْر الفهم عنده دليل ضعف الاستيلاء على المادة، وفيها ما لا يفهم إلا بقراءة مضنية، وإحالة إلى المصادر لفهمها أكثر إضناء؛ ولهذا يُكثر الإحالة إلى بعض المسائل في موضع آخر؛ فتجد بحثه في الموضع الآخر أفقر من موضع الإحالة).
علمتُ بعد هذا النقد أن كتب ابن تيمية فيها غموض وصعوبة للقارئ، وأن هناك إشكالية حقيقية في أخذ المعارف من كتب العلامة ابن تيمية وذلك لما يترتب على قراءتها من إشكاليات معرفية.