والحقيقة أن البداوة ليست من سمات جل العرب عبر التاريخ، كنا في البلاد (أي الوطن) كما تسمى في الحجاز والجنوب والواحات في أماكن عدة، إذا أمحلت الأرض وغيض الماء نتبدى أي نرحل في الإصدار والتهايم بحثا عن ماء ومراع تسمن الحلال ولا تقطع عن أرض الحل والمحلال، وإذا نعمت الأحوال تنقطع بداوتنا.
ولعل التاريخ لوطننا أرض الوحدة والاتحاد الذي قام بزعامة الملك القائد المؤسس عبد العزيز رحمه الله، ومعه قوادم من أرجاء الوطن، قد كان له الريادة والقيادة والزعامة في بناء وطن من مختلف المنابت والأصول متحضرا في مناحي الحياة، نافلا مواطن الفرقة والتشرذم، وصار اليوم بعد قرن من الزمان درة حين سار الحفدة على نهج ومسار عولمي عالمي، حين صار الوطن مقودا لفكر متجدد متطور، فكان وقوف ولي العهد محمد بن سلمان واسطة العقد في قمة العشرين، دول التحضر العلمي والاقتصادي والنماء الاجتماعي، ممثلا لقائد الوطن الملك سلمان، الذي أدار الحكم المحلي في عاصمة الوطن والقرار نصف قرن، في مجتمع العاصمة الممثل لعينة الوطن.
وهنا أستعرض من مصادر التاريخ الوطني أمثلة تسند الرؤية التي كانت نهج قيادة التأسيس في جعل وطننا متحضرا. ما زال في وطننا ممن أنسأ الله لهم في الأجل شهود عيان على العصر، حين كانوا بناة تحضر بعيدا عن البداوة، ونظرة لما قام به الملك عبد العزيز رحمه الله بعد تكامل وحدة واتحاد الوطن الكيان المملكة العربية السعودية، فقد استقر في حاضرة الوطن مكة والطائف، وأسس مدرسة دار التوحيد عام 1364هـ، وربطها بالشعبة السياسية التابعة للديوان الملكي، لتحظى بمميزات مادية ومعنوية وتكون دافعاً لأولياء أمور الطلاب الذين لم يألفوا المدارس.
وحسب دارة الملك عبد العزيز ومؤرخين فقد تأسست المدرسة في حي قروى بالطائف، ولعل من الأسباب التي دعت الملك عبدالعزيز لاختيار مدينة الطائف أنها في مكان يتسم بالتوسط الجغرافي والاجتماعي بحكم الصلة الوثيقة بالبيئة الاجتماعية بمكة المكرمة، وقريب منها بحكم موقعه ولجوء المصطافين إليه، وأيضاً تمتاز الطائف بتيسير التأقلم مع الجو التعليمي الغريب عن بيئتهم، ونجد تفتح آفاق بلدان الحجاز عن طريق الطائف؛ فهي تمثل موقعاً إستراتيجياً في حالتي الحرب والسلم. والتركيز على تعليم التلاميذ الملتحقين إليها أصول العقيدة الإسلامية واللغة العربية.
الرغبة في توطين أبناء البادية من خلال تعليمهم والانتقال بهم إلى حالةٍ من الاستقرار، مما يسهم في نقل ما تعلموه إلى غيرهم؛ فيكون تشجيعاً للالتحاق في ركب التطور والتعليم.
لقد أصر الملك رحمه الله على جلب شباب في أعمار متفاوتة إلى مدينة الطائف التي أسميتها مدينة الصهر الوطني ليدرسوا ويتعلموا، وبهذا ينتقلون من بيئة رعي وتنقل إلى بيئة تحضر. سبق هذا النهج المدني ما قام به الملك عبد العزيز من توطين البدو في واحات زراعة وإنتاج .
وحسب دارة الملك عبد العزيز أيضا فقد ظهر مشروع توطين البدو في المملكة مع بداية حكم الملك عبد العزيز، عندما شجع الكثير من سكان البادية على الاستقرار في جزء من ديارهم قرب آبار المياه وأمدهم بالمشايخ والمعونات المادية، ما أدى إلى توطينهم وتحول الكثير منهم للعيش في القرى.
واليوم صارت المدن عمارا للتصحر والتبدي على طول وعرض الوطن ولله الحمد. وفقا لراشد السكران (جريدة الرياض 25 سبتمبر 2012م - العدد 16164).
ولعل من أهم الإيجابيات لهذا المشروع إقناع ابن البادية بمبدأ التوطين والاستقرار وتأسيس ما يسمى بالهجر، وزيادة نسبة التحضّر، وفتح الباب أمام تحول اجتماعي واقتصادي وثقافي كبير لم يتحقق لحاكم قبله؛ فانخرط ابن البادية بالزراعة والتجارة والبناء والمنافسة بين أفراد قبيلته والقبائل الأخرى بالتعمير والتطاول بالبنيان، فترسخ لديهم حب وطنهم ونمو مواطنتهم، والانتقال إلى حالة من الاستقرار والعيش الهادئ في جو من الأمن والطمأنينة والسلام، من خلال مشروع التوطين العظيم الذي كتب عنه الشرق والغرب فتحولت الجزيرة العربية من قبائل متناحرة ومتحاربة إلى مملكة آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان.
وحسب موقع إسلام ويب (الأنبياء والرسل كلهم من الحضر ومن أهل القرى، كما قال الله عز وجل في السورة نفسها في آخرها: {وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} http://iswy.co/e42lq .
دعونا نردد مع شاعر الوطن المهندس علي الدميني:
" ولي وطن قاسمته فتنة الهوى
ونافحت عن بطحائه من يقاتله
إذا ما سقاني الغيث رطبا من الحيا
تنفس صبح الخيل وانهل وابله" .