وأنا أراجع بعض الأعمال الغنائية القديمة تركزت عيني على أغنية كتبتها مطلعها «انت عسل» ونهاية المذهب كان «ومن المحبة ما قتل».. والتي لحنها الأخ طلال باغر، وغنتها الفنانة المصرية نادية مصطفى، في ألبوم حمل عنوان «أنت عسل»، وذلك من زمن غير قريب.

والحقيقة لم يلفت انتباهي العسل ولا الحلا، فهناك من يدس السم في العسل، مع أنه الآن صعب فأولادنا بينهم وبين العسل من صنع السندوتشات والآيسكريمات والشكولاتات التي هي بوابة السمنة الكبيرة وما يترتب عليها خاصة عند الإسراف في تناولها، ولا شدتني أيضًا كلمة حلا، فالحلا إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما هو الحب فهناك حب يعمي البصر والبصيرة، لكن الذي جذب انتباهي هو القول «من المحبة ما قتل» والذي قد استعرته من مقولة شائعة منسوبة للشاعر العراقي عبدالملك الأصمعي، ويقال إنه رأى ذات يوم في تجواله صخرة كتب عليها بيت من الشعر. (يا معشر العشاق بالله خبروا *** إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع).

فكتب الأصمعي على الصخرة (يداري هواه ثم يكتم سره *** ويخشع في كل الأمور ويخضع).


وفي اليوم الثاني وجد ردًا من كاتب البيت الأول يقول فيه (وكيف يداري والهوي قاتل الفتى *** وفي كل يوم قلبه يتقطع).

فكتب الأصمعي (إذا لم يجد الفتى صبرًا لكتمان أمره *** فليس له شي سوى الموت ينفع).

ومر في اليوم الذي يليه وجد الشاب الذي يكاتبه مقتولا بجوار الصخرة وقد كتب عليها البيت الأخير:

(سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا *** سلامي إلى من كان للوصل يمنع)

(هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم *** وللعاشق المسكين ما يتجرع)

فقال قولته الشهيرة «إن من الحب ما قتل».

وقد نفعل تلك المقولة دون إدراك منا ولا تعمد، وخير مثل على ذلك ما نحمله لأبنائنا من حب فطري قوي، وهذه طبيعة لا لبس فيها، ولكن الحب المبصر هو المطلوب لا الحب الأعمى.

إن أبناءنا أكبادنا تمشي على الأرض، ففضلاً عن الحب، ماذا فعلنا لهم لمستقبل أجمل وواعد، من جيل إلى جيل نعايش تربيتنا لهم على طمام الوالد، ينشأون على تحصيل الحاصل، فالهدف هو نيل الشهادة الجامعية، ومن ثم الانتظار في طابور الوظيفة الظريفة، والتي لا سقف لها لا من حيث التوقيت ولا المنهج، فهو طابور طويل في عز الشتاء لا ينتهي. واستني يا قمر حتي يأتيك التمر، وهذا التمر الذي قد لا توجد أصلا هناك نخلة تساقط عليهم رطبا جنيا، فالنخلة حتى إن وجدت، تحتاج لمن يهزها لتعطي أكلها، لكن حتى هزها غالبًا نستعين بصديق ليقوم بالنيابة عنا بهذا «الهز».

أما قد آن الأوان لأن نربي أجيالنا على الاعتماد على النفس، وأن الملعقة الذهب ولّت دون رجعة، وحتى الفضة والبرونز كلها بح، وأبشركم حتى الملعقة الخشب ذهبت إلى غير رجعة. وإن كانت هي صحية أكثر ولكن لم يعد لها وجود لا في الأكل ولا في الأمل.

وياليت السبب يكون على قول المثل الذي ما يأكل بيده ما يشبع، بل الحقيقة أنه التعود على الاسترخاء والتعويل على الأعذار مثل ما عندنا حظ أو ما عندنا ظهر وهكذا للتخلص من تحمل المسؤولية، أو أيضا على المثل الذي يقول تجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش.

نحن بحاجة إلى من يقرع الجرس ويوقد ولو شمعة في النفق، على قول المثل الإنجليزي «لئن تضئ شمعة واحدة خير من أن تلعن ألف مرة الظلام»، أو من يرمي بحجر لتحريك المياه الراكدة وإيقاظ الفكر المتكلس.

نحتاج إلى عمل يتواءم مع الأفكار النيرة والمتجددة والتي تتوافق مع رؤية 2030، وإما ننتظر لكي يصلح العطار ما أفسد الدهر فهذا انتظار ليس له سقف ولا أجل، والعطار هنا أقصد به الاعتماد على الزمن والصدف والغير. فهذا التفكير لا جدوى منه فالسماء لا تمطر ذهبًا.

لا بد من تغيير أسلوبنا في حياتنا، بدءًا من القبول بالالتزام بالسراء في كل مناحي الحياة من الروضة إلى أي وسيلة نتعامل معها، وصولاً إلى لا بد أن نتفهم أن العالم كله مبني علي الاقتصاد الذي أهم عناصره الفكر السليم واليد العاملة الخبيرة، وبناء الشباب بالعلم الذي يتناسب مع هذه المرحلة.

أمّم لا تملك من عناصر الصناعة شروى نقير مثل سنغافورة الآن هي من أعلى الدول دخلا للفرد، وكذا اليابان وألمانيا اللتين تركتا السلاح والقنابل النووية لغيرهما، يفروحون بها ونبذوا الحرب، وإن كان ذلك بفعل فاعل «مرحبا يا غصيبة»، بحكم أنه بعد الحرب العالمية فرضت عليهم ضغوط شديدة للتخلي عن صناعة السلاح، حتى أن دستور ألمانيا كتب بطريقة تمنع الجيش من الأسلحة الهجومية.. نعم، لقد حدت حريتهم في هذا الشأن، ولكن فليكن، ولم يقيموا المناحات ويلطموا الخدود على السلاح المفقود بل استغلوا ذلك، وفكروا بالسلام وانكبوا علي اقتصادهم، فهم طوعوا إمكانياتهم التي اعتمدت على ركائز العلم والفكر والتدريب والمبادرات ليصبحوا من أفضل الدول تقدما.

إن الصين والهند دول كبرى، ولكن ليس الذي رفع مكانتها مساحاتها ولا أعداد سكانها الذين لولا هذا النهج الاقتصادي الرائع ربما سيكونون عالة عليها، ولكن ما جعلها من الدول الكبرى هي العناصر التي ذكرنا.

هذه النهضة الكبرى ليست ببعيدة فقد مهدت لها رؤية 2030 الطريق، وحتى لا تفوتنا عربات القطار علينا اللحاق بها بسرعة ممنهجة ومبصرة بعقول وأياد وطنية منتجة.

كلنا نحب أبناءنا وأكيد نخطئ ونصيب في جوانب تربيتهم ولكن أحيانا نسرف في ذلك الحب ونمنيهم بالمن والسلوى والعسل، ولكن لا بد أن نعلم أن من الحب ما قتل.