ورغم أن القضية الفلسطينية ظلت حية في الوجدان الإنساني والعرف الدولي لعقود طويلة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت نوعًا من الاستنزاف والتجريف اللافت لهذه القضية، وذلك بعد أن تبنتها أطراف رفعتها شعارًا لأغراض لا علاقة لها بفلسطين، ولكن بالهيمنة والتوسع الإقليميين.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن النظام الثيوقراطي في طهران أطلق على الفيلق المختص بالتخريب في بلداننا العربية تسمية «فيلق القدس»، ولمزيد من التعمية على هدف هذا الفيلق العسكري، ولتوسيع القاعدة الجماهيرية لهذا النظام في البلدان العربية والإسلامية أطلق المرشد الإيراني الراحل علي خميني على آخر جمعة من رمضان «يوم القدس»، وابتكر الشعار الملتبس الهدف «الموت لأمريكا...الموت لإسرائيل»، والشعار الآخر الذي ساد خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية «الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء»، وهو الشعار الذي تم تطويره لاحقًا بإدخال أسماء مدن عربية أخرى على مسار هذا الطريق مثل بغداد وحلب ومكة وصنعاء، وغيرها من المدن التي وضعها الإيرانيون على هذا المسار الذي لن يصل إلى القدس، لسبب بسيط وهو أن القدس ليست وجهته الحقيقية، ولكنها تمثل الهدف التكتيكي المعلن الذي يغطي على الهدف الاستراتيجي غير المعلن لطهران في السيطرة على مدن وبلدان عربية تحت شعار هلامي حول تحرير القدس.
إن أكبر خيانة للقضية المقدسة أن تتبناها الأنظمة والجماعات المدنسة، وأكبر خسارة للقضايا العادلة أن يزعم الظالمون أنها قضاياهم، الأمر الذي يدخل العامة في نوع من البلبلة الذهنية والوجدانية الناتجة عن تبني الظالمين للقضايا العادلة، لأغراض لا علاقة لها بعدالة تلك القضايا ونصرتها.
وعليه، فإن أعظم إساءة للقدس هي أن يتشكل باسمها فيلق إيراني دمر أربع دول عربية، وأكبر تشويه لقدسية تلك المدينة أن يسمى «يوم الخميني» «يوم القدس»، على ما بين اليومين من الاختلاف الكبير، وأكذب إدانة هي إدانة الحوثيين الذين يرقصون ويتناولون القات في المساجد في اليمن للإسرائيليين الذي يهاجمون ويقتحمون المسجد الأقصى في فلسطين، لأن الإدانة -هنا- ليست من منطلق احترام المساجد، ولكن لغرض الكسب السياسي، وإلا فكيف يدينون اقتحام مسجد ويرقصون ويمضغون القات في آخر؟!
بالطبع هذا منطق أعوج لا يستقيم، كما لا يستقيم -عقلاً ولا ضميرًا- أن ينظر إلى تجار المخدرات واللصوص وقطاع الطرق ورجال العصابات وشبكات التهريب العالمي ومشعلي الحروب الطائفية، على اعتبار أنهم «أنصار القدس».
وبالمجمل، فإن الفلسطينيين والعرب لم يخسروا طول تاريخهم قدر ما خسروه بتبني إيران وميليشياتها لقضيتهم الفلسطينية التي ظلت حاضرة في العقود الماضية رغم خسارة الأرض، إلى أن بدأت إيران الاستثمار في بنك فلسطين فتحولت فلسطين إلى «كاش سياسي» في يد طهران، وخسارة أخلاقية لقضية رابحة.
ومع طبيعة الاستثمار الإيراني في القضية الفلسطينية، وبشاعة جرائم طهران في بلدان عربية بعينها ظهرت -للأسف- دعوات هنا وهناك من قبيل: اليمن قضيتي، وسورية قضيتي، وصنعاء قدسي وحلب قدسي، وغيرها من الدعوات الانعزالية التي استطاعت الممارسات الإيرانية باسم القدس أن توّلدها كردة فعل إزاء جرائم نظام طهران في البلدان العربية المنكوبة بميليشيات إيران، وهي الجرائم التي يقاتل بموجبها «فيلق القدس» الإيراني الإسرائيليين في مأرب والجوف وتعز اليمنية وفي الموصل والرمادي وديالى العراقية، وفي حلب وحمص والقصير السورية، دون أن يقاتلهم في القدس الفلسطينية!
إن عزل قضية الشعوب العربية في لبنان وسورية والعراق واليمن عن قضية الشعب العربي في فلسطين خطأ جسيم، لأن مظلومية اللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين على يد إيران لا تختلف عن مظلومية الفلسطينيين على يد إسرائيل، ولكن التكتيك الإيراني هو الذي جعل بعض الفلسطينيين يرون خلاصهم على يد من جلب الدمار لأشقائهم في بلدان عربية أخرى.
أخيرًا، ليس الغرض هنا إعفاء العرب والفلسطينيين من مسؤولياتهم القومية والدينية تجاه فلسطين، قدر ما هو السعي لإيصال حقيقة مفادها أن طروادة دمرها حصان خشبي ظنته دعمًا لها، قبل أن يخرج الجنود من بطنه ليدمروا المدينة التي ظنت أن نجاتها في الحصان، فالتهمتها النيران.
وبالإجمال، لا ينبغي أن تفتح لحصان طروادة الإيراني بوابات مدننا العربية، لأن الجنود والمتفجرات والأفكار المفخخة والنيران كلها تختبئ في بطن هذا الحصان.
ولكي لا يخسر العرب والفلسطينيون القضية كما خسروا الأرض فإن عليهم أن يتبنوا قضيتهم بأنفسهم، دون أن يسمحوا لمن تفاخر باحتلال أربع مدن عربية باسم القدس أن يتاجر بهذه القضية العادلة.