وسأكمل اليوم مشاهدات الأسبوع الماضي حول السعودي وثقافة الإنتاج. حول ثقافة التبرير والاتكالية التي يرمي عليها – المهزوم – قصص فشله في وطن اتسع لغيره من الملايين لملايين الفرص المشرعة. في بحر الأسبوع الماضي وقعت سمو الأميرة مضاوي بنت مساعد بن عبدالعزيز عقداً خيرياً مع جامعة الملك سعود لتمويل مشاريع صغيرة تتولى فيها الجامعة مسؤولية الاختيار والتدريب لبنات مواطنات على إدارة وبناء هذه المشاريع، فيما ستتولى الأميرة الدعم من عائد الجمعية الخيرية التي أوقفتها الأميرة لبعض مشاريع الدعم الإنساني. ولب القصة في كلمة سمو الأميرة في حفل التوقيع وهي تتكلم بحرقة عن الاتكالية وعن أسطوانة التبرير وهي تشير بوضوح إلى أننا جميعاً تعبنا من إلقاء اللوم على هذه الإدارة أو تلك فيما نحن – قاعدون – لا نسكب عرقاً ولا نقاتل ولا نزاحم مثل الملايين التي التقطت كل هذه الفرص المشرعة في جدار هذا الاقتصاد الوطني العملاق. وذات الفكرة في شراكة سمو الأميرة مع الجامعة تعود بي إلى فكرة مشابهة وقفت عليها قبل أكثر من عام مضى، وفيها كان تحالف خيري ضخم مع إدارات وصناديق متخصصة يبتدئ ذات فكرة دعم المشاريع الصغيرة بقروض خصم ميسرة ومؤجلة إلى عشرات الشباب الذين تقدموا بأفكارهم وحصلوا بالفعل على هذه القروض بعد – الإيهام – الورقي وحتى المادي بوجود البنية التحتية لبعض الأفكار التي تقدموا بها للحصول على هذه القروض. وجوهر الدعوة التي وقفت عليها مع هذا – الكارتيل – الضخم ليس إلا زيارة هذه الأفكار الورقية في أماكنها للوقوف على المضحك المدهش.

عشرات الشباب وبالبراهين لم يروا في هذه الفكرة إلا تحايلاً من أجل الحصول على قرض بهدف تأمين المال السائل لأن سواد هذه المشاريع التي وقفنا عليها أصبحت في أماكنها مجرد أطلال بعد الحصول على القرض السخي والمدعوم، وبعضها الآخر، وللأسف الشديد، مجرد اسم مستعار لصاحب القرض بعد أن ظهرت من خلف الستار وجوه الملاك الأصل من الأجانب الأشاوس، ولكم من الخيال أن من يدفع القروض الشهرية لتلك الأفكار هم الأجانب أنفسهم الذين يمر عليهم المندوب نهاية الشهر – عياناً بياناً – وهم يسددون بانتظام وكلها من ثمرات رأس البيعة.

وسآخذكم الآن إلى منعطف جديد مختلف من المشاهدات: في بحر الأسبوع ما قبل الماضي ذهبت بصحبة صديق إلى أقصى النهايات الطرفية لحدودنا مع اليمن الشقيق في جبال الحشر الشاهقة. وحتى لا أهضم وطني حقه فقد كنت في بالغ السعادة من مشاهداتي للبنى التحتية التنموية التي لا تقل في الأساسيات على هذه الحدود عما تجده في شوارع المدن الكبرى، وأعلى قيم الأوطان هي تلك الأوطان التي تعطي ساكنها البعيد أساسيات العدالة التنموية ولو حتى في أحجار الأساس لصلب حياته اليومية. ومثلما ننتقد بقسوة في كثير من الأحيان فإن علينا الإنصاف والإشادة في أحيان أخرى مدهشة. وفي أعلى هذه الجبال الشاهقة، وعلى بعد أمتار من الحدود تبدو الحياة لساكنيها، وللمتأمل المنصف للوقائع بوجهين أو طبقتين: شباب سعودي في سيارات الدفع الرباعي وأحياناً في صرعات موضة حديثة وصارخة بلا قيمة إنتاج أو قطرة عرق ومئات الآسيويين أو الأشقاء من البلد المجاور الذين يقطفون ذهباً خالصاً في عشرات الفرص المشرعة التي لا تحتاج إلى عرق قدر حاجتها للاجتهاد والمواظبة.

وبعيد صلاة العصر – استأمنت – أحد هؤلاء الأشقاء على الأسرار لكشف ما يمكن: كان الأخ الوافد الكريم يتحدث عن عشرين ألف ريال في المعدل الشهري من مهنة – الكهربائي – التي تعلمها من الحرف الأول في هذه الجبال، وهنا سأسوق مفردته بالضبط وهو يقول إن هذا المكان (منحل) عسل في كل شيء، وفوق هذا يقول بكل وضوح ما يغلي له دمي وهو يؤكد: أن السعودي يكتفي بهدية سيارة (دبل) كل أربع أو ثلاث سنوات، وفوق هذا يأخذ من جيوبنا نهاية الأسبوع ما يكفي لبعض ولعه بشيء من عاداته الأثيرة لديه، وفي الجهة المقابلة للمسجد تشاهد النقيض الصارخ: اثنان من الإخوة البنغال يديرون بقالة كبيرة وبالغة الازدحام ونحن على – الطاولة – في طابور طويل، وعند بابها مباشرة تشهد العراك اللغوي بين أب طاعن في السن وابنه العشريني العاطل الذي تحول إلى عبء على كاهل أبيه. والمفارقة المدهشة أن الأب هو من يمتلك ذات العمارة مثلما هو وكما يقول من أجّر هذه البقالة على الأخوين الوافدين، وللدهشة فإن خلاف الابن مع أبيه كان حول عطب بسيط في سيارة الابن، وحين تدخلنا لفض الخلاف كان الأب نفسه يشتكي من مطالبات – الوافد – الآخر على رأس الجبل لفواتير إصلاح ذات السيارة (كل يوم) كما يقول الأب.

تلك مجرد مقاطع من المشاهدات المؤلمة في قصة لا تجدها بين كل الشعوب: أن يتعارك شاب مع أبيه من أجل مئة ريال بينما الوافد على بعد مترين يقبض أضعافها ربحاً قبل أن ينتهي العراك. هذه هي الثقافة التي نريد أن ندفنها للأبد. ثقافة الاستعلاء على العمل، تلك التي تركتنا مجرد أجراء على أبواب من استأجرونا بهذه الثقافة.