يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير «العمل يُبعد الإنسان عن ثلاثة شرور: السأم والرذيلة والحاجة». الحياة مرتبطة بالعمل والإنتاج. وقوة الأفراد والجماعات والأمم تُقاس بمقدار ما يصنعون وينتجون وليس بمقدار ما يستهلكون.

وانتشار ثقافة العمل والإنتاج في أي مجتمع لا تقف عند حد الاكتفاء والتصدير بل تستمر في التطور حتى تصل إلى الإبداع والابتكار. وتركيزي في هذا المقال على أهمية المهن الفنية والتقنية في تنمية الاقتصاد، والفرص التي يحملها هذا القطاع الواسع. وهذه المهن تشمل ولا تقتصر على:

الصناعات بأنواعها والكهرباء والميكانيكا والنجارة والحدادة والدهان وصيانة الأجهزة وغيرها الكثير وصولًا إلى صياغة الذهب والمجوهرات. كان السعوديون – حتى منتصف التسعينيات الهجرية تقريبًا - يعملون بأنفسهم في شتى مجالات الحياة، فهم يبنون بيوتهم، ويزرعون أراضيهم، ويُصلحون أعطالهم، ويخدمون أنفسهم بأنفسهم حيثما وُجدت الحاجة. ومع زيادة أسعار النفط عام 1973م، توافرت موارد ضخمة نشأ على أثرها نهضة كبرى.


وكانت عجلة تلك النهضة شديدة التسارع لذلك احتاجت قوة عاملة متخصصة وبأعداد كبيرة في كل المهن الفنية، فتمت الاستعانة بتلك الكوادر من خارج البلاد. وبالتوازي تحول تركيز السعوديون إلى التعليم والابتعاث للخارج والوظائف الحكومية ذات الطبيعة المكتبية. وبسبب حالة الرفاه والملاءة المالية ابتعد السعوديون شيئًا فشيئًا عن ممارسة المهن ذات الطبيعة الفنية واليدوية، وأعمال البيع المباشر للزبائن في المتاجر، وفي سنين عديدة لم يبق إلا قليل منهم يمارس العمل بيده. وما يصلح وقت الوفرة قد لا يصلح أن يستمر في وقت الندرة.

وغني عن القول أن عدد البشر على هذا الكوكب في تزايد مستمر، وهم يتدافعون ويتنافسون فرادى وجماعات على موارد أقل وبعضها ناضب. ونحن جزء من هذا العالم، فعدد السعوديون عام 1975م كان حوالى 6.5 ملايين نسمة، ونحن اليوم نقترب من 22 مليون نسمة، النسبة الكبرى منهم من الشباب.وهذه الطاقة البشرية هي قوة كامنة وواعدة ويُعوّل عليها في المشاريع الكبرى.

وفي تقديري أنه مهما كان حجم التوسع في وظائف القطاع العام والخاص فلن يكفي لاستيعاب مئات الآلاف من الخريجين سنويًا، والذين يضافون تراكميًا إلى أعداد سابقة منهم تنتظر العمل.

إضافة إلى أن التطور التكنولوجي والرقمي يجعل الآلة تقوم بأعمال كثيرة كان يقوم بها البشر. وبناء على هذه التحديات فإنه أصبح من الضروري فتح آفاق اقتصادية جديدة، ومن ذلك القطاع الفني والتقني والحرفي بالمهن التي ذُكرت آنفا.

وهذا القطاع كبير الحجم، وبالتالي فإنه يشكل قيمة اقتصادية عالية، ومن جهة أخرى سوف يستوعب أعدادًا كبيرة من طالبي العمل. ولكي ندرك أهميته نذكر أن حجم تحويلات العاملين الأجانب عام 2020م كانت حوالي 150 مليار ريال، يمثل القطاع المهني جزء كبير منه. وانتقال الشباب السعودي لهذا النوع من الصناعات هو التفاف على هذه الثروة وتحويل مسارها للداخل. وعندما تتحول للداخل فهي تؤدي بالضرورة إلى دور تراكمي، أي أن تلك الصناعات تخلق سلسلة أخرى من الصناعات المرتبطة بها والناشئة عنها، تزداد معها القيمة المضافة.

الرفاه حالة اقتصادية رائعة ونتمنى أن تستمر، ولكن لاشك أن الاقتصاد يمر بدورات مختلفة وعليه يجب أن نتأهب ونستعد مبكرًا لكي نتجاوز الصعب منها عندما يأتي بيسر واقتدار.

ونحن ولله الحمد في وضع اقتصادي ممتاز يتيح لنا تطوير وتنظيم هذا القطاع المهم من الصناعة لجعله بيئة عمل جاذبة للسعوديين. وفي الواقع أن المال السهل الذي يأتي في أيدي الناس دون جهد مقابل ينتهي إلى شراهة في الاستهلاك وإنفاق غير رشيد.

من جهة لا يسد الحاجة - لأن حاجة الإنسان لا تتوقف - ومن جهة أخرى هو فرصة اقتصادية واجتماعية مفقودة فيما لو تم استثماره في تطوير ابن أو ابنة تلك الأسرة المحتاجة لكي يتعلم صنعة يسد بها حاجته بشكل مستمر.

وتقول الحكمة «من اتكل على زاد غيره طال جوعه». والصينيون قالوا قديمًا «لا تعطني سمكة كل يوم بل علمني كيف أصطاد».

ولكي يحدث هذا التحول الكبير فإن ذلك يستوجب عمل خطة شاملة للتعليم الفني المبكر والتدريب والتطبيق والعمل يواكبها برامج تحفيز عالية المستوى. وهذا البرنامج الطموح يجب أن يشترك ويسهم فيه القطاع الخاص والمؤسسات المالية الكبرى، تؤسس النظم والخطط والبرامج التي من خلالها يتعلم الطلاب المهن المناسبة وعلى أصولها الصحيحة.

وفي الوقت نفسه يجب أن نذكر أن المشاريع الكبرى لا تحتمل أنصاف الحلول، نصف خطة، نصف تطبيق، نصف مراقبة، ثم ينتهي الأمر على وجود عاملين في المتجر أو الورشة أحدهما يعمل والآخر يتصفح جواله.

قالوا قديما «صنعة في اليد أمان من الفقر». قيل هذا على الفرد ولكن هذه المقولة صالحة أيضًا للجماعات والأمم.

وفي حديث المصطفى ﷺ «ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده».

وقد كان الأنبياء من قبلنا وهم أفضل البشر أصحاب مهن، فكان منهم النجار والحداد والخياط والمزارع واشترك معظمهم في رعي الغنم.