ليس سرا أن منطقتنا تعاني من أزمة في نظامها الإقليمي وهي أزمة عاد الربيع العربي ليكشف عوارها بقوة، بدءا من تعريف ماهية هذا النظام بعموميته، وكذلك محدداته وأطره العامة. فالجغرافيا التي تشكل العامل الأول في معادلة أي منظومة إقليمية تكشف من جهة أخرى عوار مفهوم النظام الإقليمي الذي يجد العرب أنفسهم فيه. فحدود نظامنا الإقليمي غير واضحة ويغلب عليها التشابك أكثر من الوضوح.
حتى الآن ما يجمع 22 دولة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج تشكل صلب منطقة الشرق الأوسط ليس أكثر من تشارك في اللغة والتاريخ والإرث الثقافي، إضافة لمفاهيم عائمة من قبيل وحدة المصير.
على امتداد العالم العربي تتباين حالة الدول العربية بين نقيضين على الدوام، فالنظام الاقتصادي لا يشكل أرضية مشتركة بين دول تتمتع بثراء فاحش في مقابل دول تعاني من حالة اقتصادية متردية، وهذا التباين ليس تباينا في الثراء بحد ذاته بقدر ما هو تباين في هياكل الدول أنفسها، سواء هياكلها الاقتصادية أو حتى هياكلها السياسية، وهي هياكل سيزيد من عمق تباينها الربيع العربي بتأثيراته المستقبلية وخاصة على الثقافة السياسية بين الدول العربية. وسيظل القاسم المشترك بين موريتانيا وفرنسا على سبيل المثال أكبر وأعمق بكثير من الرابط المشترك بين عمان وموريتانيا. ولا يزال تصور قيام نظام إقليمي متكامل تحت مظلة استراتيجية واحدة يجمع الصومال بالعراق مثلا ضربا من ضروب الخيال السياسي أكثر من الواقع السياسي.
ما هي حدود النظام الإقليمي هنا؟ هل يتضمن نظامنا الإقليمي تركيا وإيران؟ وهل يتضمن إريتريا ودول القرن الأفريقي التي لها تداخل مباشر مع دول عربية؟ وهل يتضمن حوض المتوسط الشمالي الأقرب لدول المغرب العربي؟ ثم، ما هو التصور النهائي لتداخل كل تلك الأطراف مع بعضها البعض؟ فإذا كان هناك نظام إقليمي عربي، فما هو إذا مفهوم الأمن الإقليمي العربي؟ وهل يمتد هذا المفهوم ليشمل تحديات دول شمال أفريقيا التي تختلف عن تحديات دول الخليج التي تختلف بدورها عن تحديات جيبوتي والسودان؟ إنها أزمة معنى حقيقية، في أن يكون هناك تبنٍ لمفهوم نظام إقليمي دون أن يكون لهذا النظام أي حدود أو معالم واضحة.
هذا الأمر هو ما يسبب الانكشاف الكبير الذي تعاني منه المنطقة من الخارج، وهو انكشاف يظهر أكثر ما يظهر في أوقات الأزمات. والعراق كمثال سابق أظهر حجم تعدي مصالح الدول من خارج المنطقة على مقدراتها دون أي قدرة لهذا النظام الإقليمي العربي من التأثير ناهيك عن القيادة، فخلال أزمة العراق منذ الاحتلال الأميركي كان التأثير العربي فيه صفرا إذا جاز التعبير، ولا يتجاوز مجرد محاولة العرب البقاء في اللعبة والموازنة مع اللاعبين الآخرين. هذا الأمر يتكرر اليوم مع سورية بصورة أو بأخرى، فرغم وجود هذا النظام الإقليمي المفترض نجد أن أزمة سورية في الواقع تقف أرجل حلها خارج النظام في عواصم عالمية تتجاذب مسألة سورية لحسابات مصالحها التي لا تتعلق في المحصلة النهائية لا بالإقليم أو نظامه. وطرح فكرة حل التدخل العسكري التركي ومن وراءها حلف الناتو بناء على حجج قانونية تمتلكها تركيا على وجه الخصوص ولا يمتلكها العرب هو أبلغ تعبير عن حجم أزمة هذا النظام الإقليمي في التعامل مع تحدياته وقضاياه.
لا يوجد في منطقتنا أي صيغة ملكية إقليمية للتعامل مع الأزمات (regional ownership of conflict) فأزماتنا ليست ملكنا في الأساس للتعامل معها، ومن ثم فالنظام الإقليمي هيكليا عاجز عن التعامل مع أي تحد إقليمي.
سورية أبلغ مثال لهذا العجز، ويتبدى أكثر عند محاولة الخروج بمفهوم شامل وواضح لماهية منظومة الأمن الإقليمي في المنطقة التي يتشارك فيها الجميع. فالأمن الإقليمي ليس أكثر من توافق مصالح حول قضايا بعينها ولا يرقى لأي صيغة جامعة تشكل مظلة لسياسات الدول. وبالمقارنة نجد أن أقاليم أخرى كأميركا الجنوبية أو حتى أفريقيا استطاعت تجاوز هذه التحديات من خلال صياغة مفاهيم واضحة للنظام والأمن الإقليمي الخاص بها. أزمات أفريقيا اليوم هي ملك لأفريقيا في المقام الأول، فالاتحاد الأفريقي بمجلس السلم والأمن الخاص به رغم كل ما يشوبه من تحديات وضعف في أحيان ما، هو أكثر فاعلية بأذرعه الدبلوماسية والعسكرية (قوات حفظ السلام) من جامعة الدول العربية على سبيل المثال.
إن نظاما إقليميا ـ على سبيل المثال تفاعلات تركيا وإسرائيل وإيران ـ تشكل مقدراته بأكثر مما تشكل الدول العربية التي هي عصبه الأساس هو نظام وصل لحالة من السيولة تجعله عاجزا عن توليد أي رؤية إقليمية، وبالتالي عاجزا عن
التعامل مع أي من تحدياته أو قضاياه. والحل يبدأ بإعادة طرح السؤال الرئيسي: ما هو النظام الإقليمي فعلا؟ هل هو مجرد منظومة مشتركة بين دول تجمعها وحدة اللغة في المقام الأول؟ أم منظومة بين دول قائمة على وحدة استراتيجية حقيقية ضمن بقعة جغرافية؟