كنا في حديقة عامة في بريطانيا، عوائل سعودية عديدة، نفترش العشب ونلتحف السماء، الأطفال يركضون خلف الطيور والكبار يركضون وراء أبنائهم.
لم يتوقف هذا السباق إلا عندما نادت طفلة صغيرة طفلا آخر بـ "يا حبيبي" بالإنجليزية على مسامع الجميع. حينها حمل الأب ابنته مباشرة إلى سيارته غاضبا وتركنا حائرين ماذا سيفعل بها، هل سيعنفها في المنزل؟ أم يعنف زوجته؟ أم كلاهما معا؟ فقد سمعناه يتمتم وهو يقبض على ابنته متلبسة قائلا: "هذا ما جنيناه من أمك، أدخلناك مدارسهم. وهذه هي النتيجة". لم ننتظر طويلا لنعرف الإجابة. جاءتنا الأخبار لاحقا أنه أرسل زوجته وابنته التي لم تكمل السابعة إلى المملكة.
منحهما تأشيرة خروج نهائي على طريقة ترحيل الشغالات، حرم ابنته من التعليم في بريطانيا وزوجته من البقاء معه بسبب عبارة ربما تسكبها طفلته أو أفدح منها في وطنه ووطننا.
الصغيرات ليسوا وحدهن ضحايا سطوة الآباء، الكبيرات ضحايا أيضا، تشرفت قبل شهور بمعرفة طالبة دكتوراه سعودية في الجامعة ببريطانيا تدرس الرياضيات.
لكن تتميز في إدارة المناسبات، التقيتها لأول مرة خلال إدارتها لملتقى الأطراف الصناعية في الجامعة، كانت شخصيتها صارمة ودقيقة، تقود جيشا من المتطوعين، أساتذة وطلابا، ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، لا تسمح بالتأخير ولا بحدوث أي خطأ، عينها على ساعتها طوال الوقت، لا ينقصها سوى صافرة لتصبح حكم كرة قدم.
في المرة الثانية شاهدتها مع والدها في مطعم للوجبات السريعة وسط المدينة، كان والدها متوترا، ينزف عرقا وقلقا، مرة يقول لها قفي أمامي، ومرة أخرى يأمرها أن تعود إلى الخلف، وآخر مرة سمعته يقول لها انتظريني في الخارج، كان الأب فظا غليظ القلب مع ابنته، رغم وعيها وتفوقها، أشفقت عليها، تقدمت نحوه، صافحته بحرارة وعرفته بنفسي وعبرت له عن مدى إعجابي بشخصية ابنته وتميزها، أكدت له أنها مصدر فخر لنا كسعوديين وعرب، كنت أتطلع أن يمنحها مساحة وثقة تستحقها مستقبلا، لكن للأسف حدث مالم يكن في الحسبان، ازداد الوضع سوءًا وتعقيدا، كتبت لي حديثا أنه منذ أن التقاني والدها في المطعم وهو يرافقها كظلها في الجامعة، وفي المكتبة، ولولا الحياء لدخل معها فصلها، وحينما تقاومه بسؤال عن سر حصاره لها يرمي عليها عبارته الشهيرة :"أنتِ شعرة في لحيتي".
طالبة أخرى يضطهدها أبوها المؤقت، شقيقها الصغير في الغربة، فهو ينفق راتبها على شربه وملابسه، على صولاته وجولاته، يسطو على بطاقتها البنكية وسعادتها، وحينما تفكر بإخبار والدها تتذكر أنه عندما سيعود ستعود فتلوذ بالصمت، تصرف ساعات طويلة في معمل كليتها ومكتبة جامعتها بينما يصرف شقيقها ضعفها في الحانات والتسكع في الأسواق، انهارت في إحدى المرات وتدفقت في أذن شقيقتهما الكبرى، فأجابتها بلا اكتراث: "إنه مراهق. علينا أن نتحمله ونستر عليه".
من المؤسف أننا قد نطفئ طفلة لو قالت "يا حبيبي" بينما سنشتعل ضحكا لو قال نفس العبارة شقيقها، إنه من المؤلم أن نرسل مراهقينا الذكور إلى الخارج دون رقيب أو حسيب، في المقابل، نحبس شقيقاتهم الكبار في منازلنا، وإذا تكرمنا وسمحنا لهن بالدراسة خارجا صادرنا حرياتهن وكرامتهن وحقوقهن بذرائع واهية.
من المخجل أن نتغاضى عن أخطاء جسيمة يقترفها ذكورنا بل ونتستر عليهم دون أن نفكر في علاجهم ومواجهتهم. في حين نحاكم إناثنا على جرائم لم يرتكبوها. لم تقع إلا في رؤوسنا. من المحزن جدا أن نشبه بناتنا ومحارمنا بشعرة في اللحية. فالشعرة أينما نبتت تظل شعرة. قد ننتزعها.
قد نقطعها. قد نلوثها.