رأس مالهم ليس بضاعتهم فحسب، بل الصبر و"ترويض" الملل، وزادهم التوكل على الله، وحبال انتظارهم الرزق البعيد طويلة.
قلما تلحظهم من دون حجاب زجاجي تتوارى خلفه ليحميك من البرد القارس شتاءً والشمس الحارقة في أشهر الصيف، وإن فكرت في التعامل معهم بصورة مباشرة فمن وراء حجابك ومن داخل سيارتك، بعد أن تراقب الطريق جيدا وأنت تنحدر باتجاه أحدهم لتبتاع وحدتين أو أكثر من "الجح"، أو بعضا من الفاكهة "التي دائما ما تكون طازجة"، وكذلك العسل أو عبوات ماء زمزم، ليبقى الباعة المنتشرون على الطرق السريعة والشوارع الرئيسية داخل المدن صيادين مهرة ولكن لـ"لقمة العيش" رغم قسوة وصعوبة الظروف التي يعملون فيها.
منطق الطير
ومن على الطريق الساحلي بمدينة الدمام، تحدث إلى "الوطن" أبوسعد، واصفا عمله في بيع الفواكه في الطرقات السريعة بالخيار المُر للحصول على لقمة العيش رغم قلة الزبائن في مثل هذه المواقع. وقال "إن الخيار الأمر هو عدم تلبية حاجات أسرته أو الاقتراض للوفاء بمتطلبات الحياة، شاكرا الله على ما يتحصله من بيع الفواكه في هذه الطرقات".
وكان المحطة الثانية مع أبوجلال الذي نصب خيمته على قارعة شارع المستشفى وآثر بضاعته على نفسه، ليقف هو في الشمس بينما كراتين الفاكهة تنعم بظلال الخيمة، حيث قال: إن الرزق في كل مكان، والمهم أن يسعى الفرد ويتوكل على الله، مبينا أنه يعتمد في مهنته هذه على منطق الطير الذي يخرج في أول الصباح "خماصا" ويعود بإذن الله "بطانا".
رزق وفير
وبثمرتي برتقال وابتسامة عريضة تخفي خلفها رضا عميقا استقبل العم منصور "الوطن"، وأشار إلى أن البيع على الطريق السريع فيه متعة ومعاناة ورزق وفير أيضا، ويعلل العم منصور ذلك بقوله "إن الزبون الذي يبتاع منا لا يدقق كثيرا في السعر ويشتري كمية كبيرة، لاسيما أن البضاعة دائما ما تكون طازجة ومغرية للمارة وقائدي السيارات".
وعن المواقف الصعبة التي تواجهه مع الزبائن في مواقع البيع تلك، ذكر العم منصور أنها تتلخص في مرور فترات طويلة دون أن يبيعوا إلا القليل، كما أنهم أحيانا يبيعون بضاعتهم بثمن وصفه بـ"البخس" خصوصا إذا كانت الظروف المناخية غير ملائمة في حالات يصحبها سقوط الأمطار أو هبوب عواصف ترابية ورملية.
الحفر على الصخر
الشاب صالح الذي اتخذ من كراتين الفاكهة مقعدا يبدو غير مريح كما هو الحال بالنسبة إلى الظروف المحيطة، علّق طريقة البيع هذه على كتف عنوان دافئ ووصفها ب"الحفر على الصخر" للتكسب الحلال، وزاد: أن من يمارس هذا العمل يعتبر من النماذج المشرفة لمواجهة صعاب الحياة والخروج عن المألوف في دخول سوق العمل، وأضاف "أن البيع على الطرقات، وبالذات خارج المدن وعلى أطراف الكتل السكنية يمثل سوقا جديدة وغير تقليدية، مطالبا من يمارسها بتوخي الحذر والوقوف بمسافة كافية عن مسار السيارات تجنبا للمخاطر والحوادث التي قد تقع فجأة".
وعن طبيعة الصفات التي يجب أن يتحلى بها باعة الطرقات قال صالح "إن القدرة على الإقناع، والجرأة، إضافة إلى النشاط والصبر والاجتهاد أهم ما يتصف به عادة من يبيع بضاعته على قارعة الطريق، وفي الطرقات السريعة التي تربط المدن والمناطق بعضها ببعض".
رؤية وتخطيط
مدير فرع صندوق "هدف" لتنمية الموارد البشرية بالمنطقة الشرقية طارق الأنصاري لم يخف إعجابه بباعة الطرقات، وصبرهم ومثابرتهم، إلا أنه يرى أنهم لا يمتلكون رؤية جيدة للتخطيط والإدارة، مشيرا إلى أن رأس المال يقف عائقا أمام الكثير منهم لاستئجار محل يعرض فيه بضاعته، ومع ذلك هم مستمرون في هذا العمل الشاق نوعا ما، وأضاف: أنه بإمكان الكثير ممن يمتهنون تلك المهنة أن يطوروا من أنفسهم، ويجنوا مزيدا من الربح.
وتطرق الأنصاري إلى نقطة أخرى تتعلق بإمكان انتساب باعة الطرقات لإحدى جمعيات تنمية الموارد البشرية التي تعنى بفكرة المسؤولية الاجتماعية، وفي حالة اجتيازهم البرامج التدريبية والتطويرية التي تقدمها تلك الجمعيات التي غالبا ما تكون غير ربحية، يكون بمقدورهم صياغة التصورات للمشاريع التجارية وترجمة الأفكار إلى مشروع تجاري يمكن تنفيذه على أرض الواقع، مشيرا إلى أن الجمعيات بإمكانها كذلك أن تشرح مهارات تطوير الذات والتعريف بالمشروع وكيفية بلورة الهوايات والإمكانات لتطوير الفكرة، وخصائص العمل من المنزل وخصوصياته وأساسيات النجاح في العمل المنزلي ومبادئ دراسات الجدوى المبسطة، ووضع خطط العمل وإدارة المشروع الناجحة، ودراسات السوق ومهارات البيع والتسويق.
تطوير الذات
ويضيف الأنصاري قائلا: كما تركز هذه الجمعيات والصناديق على التفهم الواقعي لعمل السوق وما يؤثر عليه وما يهم العميل سواء من ناحية السعر أو الخدمة المقدمة، وكذلك تعين منتسبيها على رفع مستوى الإنتاجية والعمل ورأس المال البشري في مشاريعهم، وتساعدهم كذلك على تطوير ذواتهم وتطوير مهاراتهم الحياتية قبل الالتحاق بسوق العمل لكي يكونوا عناصر استقطاب من قبل المؤسسات المختلفة، لأنه عندما يتميز عضو الجمعية فإن أي شركة أو مؤسسة عملية تطمح أن يكون من نصيبها لكي يرفع الإنتاجية ومستوى العمل فيها، وتعمل مثل هذه الجمعيات الكثير في هذا الجانب من خلال تطوير الأفراد للخوض في سوق العمل، حيث هناك العديد من البرامج التي تستهدف الشباب من ناحية التدريب والتطوير.
وقال: نحن نعمل مع الشركاء الآخرين مثل "صندوق ريادة"، و"صندوق المئوية"، و"صندوق الأمير سلطان"، و"صندوق باب رزق"، موضحا أن بعض الشباب يتقدم لأحد هذه الصناديق ومن ثم تحال إليهم أوراقه، بعد ذلك تدرس وتستكمل جميع مسوغات قبول الطلب، والمتطلبات الواجب توافرها فيه، التي من أهمها أن يكون سعوديا، وليس لديه عمل، وأن يوجد لديه ميول تجارية، ورغبة في العمل التجاري، وبعد الموافقة على الطلب يصرف له مبلغ 3 آلاف ريال دعما لمدة سنتين حتى يستطيع صاحب الطلب الوقوف على أقدامه، وتعمل دورات للمستفيدين من البرنامج من ضمنها دورات على كيفية استخدام التقنية، مثل الإنترنت، لكي يستطيعوا أداء أعمالهم التجارية من خلال وسائل الاتصال الحديثة.
تأهيل وتدريب
وأشار الأنصاري إلى أن معظم الباعة على الطرق يعملون في بيع الفواكــه وبعض المنتجات، وأن أعدادهم على الطرقـات قليلة نسبيا، لافتا إلى أن مشكلة هؤلاء الباعة تكمن في عدم وجود محلات ثابتة وواضحــة لديهم، بالإضافــة إلى أنهم يفتقدون إلى المعرفــة بوجود صناديق أنشئت من أجل مساعدتهم على مزاولة العمل التجاري، مطالبا بأن تكون هناك جهة تتبنى هذه الشريحة من الشباب وتدرس أوضاعهم، وتتعرف على احتياجاتهم، وتعمل لهم بحثا ميدانيا تمهيــدا لتأهيلهم لمزاولة العمل التجاري بشكل منظم، وبين أن صندوق "هدف" يعقد دورات لشباب تساهم في مساعدتهم على فهم أوضاع السوق من خلال برنامج حمل اسم "I get it" أي بمعنى "حصلت عليها" ويقدم هذا البرنامج 4 دورات في السنة، ويتولى مهام التدريب فيه مدربون متخصصون في هذا المجال.