نؤمن بأحقية الأفكار في الولادة والنمو والدوران، إلى درجة الإشعاع والظهور، أو الانطفاء والاضمحلال، ولهذا الإيمان ضريبة مُرَّة متمثلة في السماح للأفكار الفاسدة بالتحرك الحر، والسماح لفئة غوغائية في كل مجتمع تقوم بالترويج لفاسد الأفكار، بل وصناعتها أحيانًا، ومصداقًا لذلك مسألة التطرف فقد يكون الإنسان متطرفًا بنظر أحدهم، لكنه مقاتل من أجل الحرية بنظر آخر، فغالبًا ما يستند الغموض والالتباس حول التطرف إلى المصالح والخلفية الثقافية والانتماءات الدينية لصاحب وجهة النظر تلك، ولذلك فإن الأفكار المتطرفة لا تموت في أي مجتمع بشري مهما حكم بأنظمة وقوانين صارمة، ومهما بث فيه من برامج توعوية لبعث روح التحضر والتسامح، ومتى ما وجد التطرف فغالبًا سيتبعه إرهابٌ ما في زمانٍ ما، أو ظرفٍ ما.

وبناء على بعض الآراء فإن مفهوم التطرف يعتبر حقلًا دراسيًا جديدًا نسبيًا، وبالرغم من أنه قد نُشر قدرٌ هائلٌ من البحوث والدراسات وحلقات النقاش وورش العمل بشأن التطرف، وهناك تقدم كبير في الكشف عن العمليات المؤدية إلى تبني أيديولوجيات متطرفة، فلا تزال ثمة مشكلاتٌ رئيسة تواجه الباحثين، حيث ثبت أن فهم عمليه التطرف مرهقة وشاقة، نظريًا وعمليًا، على المجتمع البحثي، ناهيك عن التحديات العديدة المرتبطة بالبحث ونمذجة عمليات التطرف، بما في ذلك الوضوح المفاهيمي.

وبناء على ذلك فإن إيجاد تعريف مشترك للتطرف قد ثبت أنه صعب مثله مثل الاتفاق على تعريف عالمي للإرهاب، وذلك على الرغم من المحاولات التي بُذلت للتوصل إلى توافق أكاديمي في الآراء، حيث إن تحديد ماهية التطرف ومن الذي يعتبر متطرفًا وخارجًا عن التيار السائد يعتمد على النقطة المرجعية التي يعتمدها الشخص في البحث، وهذا يتغير مع الوقت، ومع الأشخاص وخلفياتهم الثقافية.


ومما يعقد الأمر أكثر، أن دراسة التطرف لا تهتم فقط بالتطرف المؤدي إلى إرهاب فقط، بل أيضًا بالبحث في التطرف المعرفي، وهو مجرد تطرف في الأفكار.

وفي حالة ما إذا تم دخول المزيد من الأفكار المتطرفة إلى الخطاب السائد، وهو أمر ممكن، ومن الأمثلة على ذلك حالة الصحوة من 1985-1995، مقارنة بما فترة ما قبل 1979، وحالة تطرف خطاب الإسلام السياسي بعد عام 2013، وعندها سنكون بحاجة إلى إعادة تعريف التطرف والمتطرف، وسنكون كذلك بحاجة إلى تطوير نماذج مختلفة للتطرف وفق البيئات السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة، والأخير من الأهمية بمكان لأنه يمكن من صياغة سياسات برامج منع التطرف ومكافحته، ويوجه تطوير البرامج وتنفيذها وتقييمها، ويدعم الممارسين في جهودهم لإعادة تأهيل المتطرفين.

وبشكل عام فإن برامج مكافحة الإرهاب تهدف -بالدرجة الأولى- إلى إضعاف الإرهابيين ومنعهم من تنفيذ مخططاتهم، ومنعهم من استقطاب أفراد جدد، ولا يوجد نظرية تقول بالقضاء المبرم على الإرهاب، متى ما ظل الفكر المتطرف حرًا، يسرح ويمرح بأشكال وتلونات مختلفة عبر المكان والزمان.

وعلى ذلك فأجزم أن أحد أهم الأدوات الأساسية في مكافحة الإرهاب، هي: معرفة كيفية تمكن الأفكار والجماعات المتطرفة من البقاء على قيد الحياة والتكيّف والنمو رغم الجهود الأمنية والسياسية والتشريعية المختلفة لمحاربتها، والتي يأتي في مقدمة أسباب هذا البقاء: هي مسألة الذكاء الجمعي والتراكم الخبراتي للجماعات الإرهابية، ومن أهمها أداة الكمون الإستراتيجي، لمحاولة البحث عن طرق جديدة لإعادة صياغة إستراتيجيتها ومحاولة استعادة وتوسيع نفوذها، ومن ثم التكيف مع أوضاعها الجديدة، والعمل على عملية إعادة صياغة إستراتيجيتها للزمن القادم، وهذا يعني أن هذه الجماعات تبتعد عن كل ما يقترب من الإرهاب أو التطرف، بل وتعمل على إعادة هيكلة تنظيماتها وصياغته بشكل كامل لمواجهة إستراتيجيات مكافحة الإرهاب، ومكافحة التطرف الناجعة غالبًا في الحد من كوارث إرهاب تلك الجماعات، كما أن الجماعات الإرهابية تستغل ثغرات الإستراتيجيات أو التكتيكات غير الفاعلة أو الفاشلة، ويأتي في مقدمتها الإخفاق في تحديد توصيف دقيق جامع مانع، للممارسات المتطرفة، والتي من آثارها تشظية مفهوم التطرف، إلى تطرف وتطرف عنيف، وكلاهما قد يكون مبررًا في بعض القوانين والأنظمة بحسبانهما فكرًا ورأيًا، والفكر والرأي لا يحاسب عليهما القانون ما لم ينتج فعلًا مضرًا أو أن يكونا تحريضًا على فعلٍ مضر، ومع ملاحظة التغير المستمر في تعريف وتوصيف التطرف والإرهاب، بسبب اختلاف طرق استخدامها باختلاف الدول، فإن وجهات النظر المتطرفة ليست بالضرورة غير قانونية، كما أنها قد لا تقود بالضرورة إلى العنف، وهذا ما تجري عليه الدول الأوربية غالبًا، وبريطانيا على وجه التحديد، ومن هنا فإن قوانين تلك الدول تحمي الأشخاص الذين يتبنون أيديولوجية متطرفة طالما أنهم لا ينتهكون الحريات المدنية للمواطنين الآخرين.

اليوم تساعد منصات التواصل الاجتماعي، المتطرف على التواصل مع جماهير جديدة، والأخطر من ذلك مساعدتها له على مواصلة التطور، والتكيف، واستكشاف تكتيكات وأدوات جديدة، فضلًا عن تغيير تنظيمه بما يجعل اكتشافه ومنعه أكثر صعوبة. لذا، يجب أن نركز أكثر على فهم الطرق التي يتعلم بها المتطرفون من أخطائهم، وتكيفهم مع تطورات وجهود مكافحتهم؛ لأننا لن نستطيع تحسين سبل مجابهة هذه الكيانات واحتوائها إلا من خلال هذه الجهود.

ولا ينبغي أن ننسى أن الجماعات الإرهابية والمتطرفة تعمد إلى آلية يمكن وصفها بأنها: آليه ما تحت التنظيم، التي تعتمد على ألا تكون جامدة أو قابعة في تنظيم محدد، وذلك عن طريق طمس الحدود بين المجموعات والشبكة أو الحركة، وهذا التغيير يوفر للمتطرف سيولة في الأفكار والاتجاهات والأهداف والتكتيكات، وفي الوقت ذاته يجعل القدرة على اعتراضها واختراقها والتدخل فيها أكثر صعوبة لأن طبيعة التحركات أضحت أقل تنظيمًا، ويشجع المزيد من أنشطة الخلايا المنفردة، أو الأفراد (الذئاب المنفردة).

أخيرًا، للحديث بقية حول فلسفة المملكة في مواجهة التطرف ومكافحته.