لم ييسر الله سبحانه وتعالى لي حضور ندوة (تطور العلوم الفقهية) الأخيرة، التي تنظمها سنوياً وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان الشقيقة، وتوليها اهتماماً بالغا، وتجمع لها العلماء من مختلف المذاهب والمدارس الإسلامية.

الندوة الحادية عشرة التي اختتمت أعمالها قبل شهر تقريباً، حملت عنواناً في غاية الأهمية، وهو (النظرية الفقهية والنظام الفقهي). مفهوم النظرية الفقهية يعني القواعد التي يندرج تحتها موضوعات متشابهة الأركان والشروط والأحكام العامة. والفقه الإسلامي غني بتلك النظريات الفقهية التي وسعت من قواعد الفقه، وتفرع عنها الكم الهائل من الأركان والشروط والأحكام.. ومفهوم النظام الفقهي يعني النظم ذات الأنساق المعرفية والتقاليد العلمية التي نشأ عليها الفقه الإسلامي، والتي بلورت مكوناته المعرفية والشرعية.

الندوة غطت تسعة محاور، أبرزها نشأة الفقه الإسلامي وظهور النظرية والنظام؛ لبحث النسق التاريخي للفقه وتطوره ومراحله، ومنشأ النظرية والنظام كمصطلح ومدى تبلوره حتى الوقت الراهن. كما تناولت التنظير والنظرية في المجال الخاص والعام؛ باستعراض عدد من النظريات الفقهية كنظرية التعسف، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية الضرورة، ونظرية الاحتياط الفقهي، ونظرية المآلات، ونظرية فقه الأولويات، ونظرية المساواة، ونظرية العقود، والذرائع فتحاً وسدا، والضرر والقبض. وشملت كذلك محاور العلاقة بين التاريخ والفقه، وتاريخ الفكر عند المستشرقين. وأتى العنوان محاكياً لما يدور في الساحة الفكرية اليوم من تساؤلات حول النظرية الفقهية، وما يعتور ردهات المجامع العلمية والحقول الثقافية حول مدى دقة النظام الفقهي وقدرته على استيعاب مجريات الأحداث البشرية.

المتغيرات التي يشهدها عالمنا الإسلامي تستدعي إعادة النظر في الكثير من القضايا من أجل إيجاد حلول لها تتسق مع أحكام شرع الله تعالى وتلبي تطلعات الناس، وهذا يتطلب إعادة النظر في النظريات والقواعد والتطبيقات الفقهية، فكثيرٌ منها يحتاج إلى تطوير. والعلماء مطالبون بأن يلامسوا في اجتهاداتهم مطالب الناس واحتياجاتهم، وعلى الجميع استيعاب أن الاقتناع بالفقه الإسلامي لا ينفي الحاجة إلى الاجتهاد وتطوير العلوم لمواكبة العصر، وإيجاد الحلول لكل النوازل والمستجدات.

لقد تعلم الناس أن الفقه الإسلامي الحقيقي قادرٌ على استيعاب المستجدات ومعالجتها على ضوء الكتاب والسنة وسائر أصول التشريع الإسلامي، ولكن ثقة المسلمين فيه وفي فكرهم وتراثهم ومشروعهم الحضاري ليست بالصورة المطلوبة؛ فواقع الفقه لا يزال يراوح مكانه حول ما قاله السلف، والجرأة الكافية للدفع بالفقه إلى الأمام شبه منعدمة، وربما ساهم ضعف التكوين العلمي لكثير من فقهاء العصر في ذلك. وأجدها فرصة سانحة للدعوة إلى الانفتاح على العلوم العصرية الأخرى؛ كالاقتصاد والاجتماع والسياسة والعلاقات الدولية والتقنية المعاصرة من أجل بروز جيل متكامل المعرفة من الفقهاء والمجتهدين، خاصة أن الاجتهاد الفقهي فيما لا نص فيه فريضة غائبة في زمننا الحالي. كما أجدها فرصة أيضاً إلى الدعوة إلى التقريب بين أصحاب المذاهب لنتمكن كمسلمين من تعميم الاستفادة من اجتهادات بعضنا ولو كانت قليلة؛ فالاجتهاد هو الطريق الأنسب للكشف عن أحكام وأسرار الله في أفعالنا، وهو الوسيلة لتجديد وتطوير الأحكام الشرعية باختلاف العصور، والدليل العملي على تكريم الله لنا بعقل يمكن بواسطته رفع الحرج عن الأمة؛ باستخلاص مبادئ جديدة في ضوء الشروط المطلوبة لاستنباط الأحكام، وبما يتفق ومقتضيات العصر، فالأصل ثابت والحاجات متجددة.

شكراً مسقط؛ فقد أثرتم بندوتكم رغم البعد كوامن النفس، وعمقتم بانفتاحكم وعدم تحيزكم البحث في الحلول.