«هل نحن بارون بأبنائنا» ؟، تبادر لذهني هذا السؤال، بعد أن تورطت في سماع الكثير من قصص العقوق، التي تعود في أصلها كما أظن إلى خلل كبير متعلق بالتنشئة.

ننصرف لا إراديا عند سماعنا كلمة «عقوق» إلى عقوق الأبناء للآباء والأمهات، وفي حقيقة الأمر أن كثيرًا من الناس، لا يعلمون أن هناك نوعا آخر من العقوق غير معترف به، بل ومنكر اجتماعيا، ألا وهو عقوق الآباء لأبنائهم.

لا يخفى على أحد أهمية طاعة الوالدين، وأن طاعتهما من طاعة الله، وعقوقهما وعصيانهما كبيرة من الكبائر، نحفظ في هذا الكثير من الأدلة الشرعية، التي تؤكد مرارا وتكرارا على أهمية البر بالوالدين: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»، وقول النبى- صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر- قالها ثلاثًا - قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين....الحديث».


فإذا كانت الطاعة دون المعصية، والبر والإحسان إلى الوالدين، حق أساسي على الأبناء منذ بلوغهم الحلم، فإن للأبناء على الآباء كذلك كثيرا من الحقوق، إذا ما وفوا بها أنجزوا بر أبنائهم، وإذا أخلوا بها كانوا عاقين لهم في المقابل، ومنها جاءت دون ريب مشقة التربية.

تبدأ حقوق الأبناء على الآباء قبل وجودهم في الحياة، بل تبدأ قبل أن يصيروا أجنة متخلقة في الأرحام، وذلك باختيار الزوجة المناسبة، يقول الله تعالى في الآية الكريمة «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ»، ثم يؤكد على هذه الوصية مرة أخرى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن مرضعته، ويحسن أدبه» وهذا إن دل على شيء فقد دل على عظمة هذا الشأن، الذي خصه بالذكر والتفصيل في الأحاديث النبوية.

ثم تتدرج الحقوق في أهليتها مع استقبال الطفل للمرة الأولى. وهنا نستطيع القول بأن البذرة التي نتأمل أن تصبح شجرة، لا بد وأن تُعطى حقها الأمثل من الرعاية، منذ اللحظة التي اهتزت في تربتها الهزة الأولى.

من هنا تبدأ رحلة الوالدين للانطلاق بالطفل، في مراحل متفاوتة من العناية والرعاية إلى ما شاء الله. متجنبين دواعي العقوق من الإهمال، الغياب المتواصل، العنف اللفظي أو الجسدي، والمن والأذى، والتفرقة بين طفل وآخر، والاستبداد بالقول أو الفعل، والتقتير عليهم ماديا وعاطفيا وفكريا، التدخل في شؤون حياتهم الخاصة، بل ويجب عليهم في خضم ذلك، حمايتهم ومعاشرتهم بالحسنى، وعدم معاملتهم كممتلكات، والجد في تعليمهم والأخذ بأيديهم، من أجل مستقبل جيد في أقل تقدير. والبذل الذي يعد نواة البر المتبادلة الأولى، وأعني هنا البذل في كل شيء ذي صلة، بدءا من المأكل والمشرب والملبس والصحبة، حتى يشبوا ويستغنوا بأنفسهم، ويكونوا قادرين على تكوين أسر جديدة، بمنهج التربية نفسها التي نشؤوا عليها.

مما يشار إليه في مقام العقوق بالأبناء، أنهم وللأسف مهما بلغوا مبلغا من العمر، لا يملكون الحق في محاسبة آبائهم، مهما بدر منهم، كما أنهم لا يملكون القدرة في تغيير أو تصحيح توجهات الآباء الخاطئة، وبالتالي فإن مشقة العيش مع والدين سيئين، أسوأ من العيش بمعزل. وقد تكون حصيلة هذه التربية إنسانا مشوها كليا من الداخل، يؤثر بشكل مباشر أو بطريقة غير مباشرة في مستقبل آخرين، ربما يكونوا أبناء له، ما يعني اتصال السلسلة، وخلق عقد جديدة قد تستمر لأجيال لا يمكن إيقافها دون وعي بها. ومن هذا المنطلق، أحسنوا فإن في الإحسان ربحا مدخرا، ساعدوهم على البر، فإن البر عطاء مقابل آخر.