مرت النهضة الصناعية في السعودية بثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى هي صناعة النفط، والثانية هي صناعة البتروكيماويات، والثالثة هي الصناعات التحويلية المختلفة.

نجحت الأولى والثانية بشكل باهر والثالثة بدرجة أقل، والدولة قد عزمت الأمر لإطلاق المرحلة الرابعة من النهضة الصناعية ضمن «رؤية 2030»، وهذه المرحلة سوف تكون - بحول الله - أكثر شمولا وتنوعا.

نبدأ أولا بالنفط، كان أول اكتشاف للنفط في الخليج العربي في البحرين 1932م، وقبل ذلك بسنوات قليلة في العراق. وقد أثارت تلك الاكتشافات اهتمام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي دعا شركة الزيت الأمريكية «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» (شيفرون حاليا) - وهي الشركة نفسها التي اكتشفت النفط في البحرين - إلى التنقيب عن النفط في السعودية 1933م. والقصة التي تم فيها جذب الاستثمار في قطاع النفط تستحق أن تروى حقا، وجوهرها هو الحكمة وبعد النظر، حيث وفرت الدولة الدعم اللازم للشركة الأمريكية، ومن ذلك الصلاحية الكاملة ومرونة التحرك، وسمحت لها بملكية كاملة مع رسوم سنوية تعود للدولة بعد التصدير والبيع.


كل ذلك بهدف تحفيز هذا القطاع الحيوي لدولة ناشئة شحيحة الموارد كبيرة المساحة. تُوّج هذا الجهد بنجاح كبير، وتم تصدير أول شحنة للنفط 1938م، ثم توالت اكتشافات النفط بنجاح كبير في البر (الغوّار) والبحر (السفانية)، وبالتدريج بدأ العامل السعودي يعمل في مصانع النفط، ثم تطورت الخبرة السعودية مع مرور الوقت، وتوافر المال وعليه اشترت الدولة السعودية 25% من حصة الشركاء الأمريكان في 1973م. ومع زيادة أسعار النفط منتصف السبعينيات - بعد أزمة 1973م - توافرت الموارد اللازمة لشراء بقية حصص الشركة الأمريكية، وامتلكت الدولة شركة «أرامكو» بالكامل 1980م.

كل ذلك التحول حدث في 40 عاما فقط، وما كان ليحدث دون توفيق الله أولا ثم بوجود القيادة الحكيمة التي تستشرف المستقبل. النهضة الصناعية الثانية هي صناعة البتروكيماويات التي يشكل الغاز الطبيعي مادتها الأولية، وقبل أن تبدأ صناعة البتروكيماويات كان الغاز الطبيعي يُحرق في الهواء، وفي أفضل الأحوال يُصدر إلى الأسواق، وعليه نشأت فكرة تحويل الغاز الطبيعي لمنتجات البتروكيماويات بهدف إستراتيجي وهو تحقيق القيمة المضافة من التصنيع.

بناء عليه تم تأسيس شركة «سابك» 1976م، لتقود صناعة البتروكيماويات، ومعها المدينتان الصناعيتان في «الجبيل» و«ينبع»، لكي تكون قاعدة لصناعة المستقبل. وبالطبع، فإن توافر الغاز الطبيعي بحد ذاته لا يضمن النجاح، لأن الصناعة تحتاج تقنية وخبرة وأسواق وموارد بشرية، وكل تلك العوامل لم تكن متوافرة محليا آنذاك، ومن هنا بدأت قصة نجاح تحمل سمات متشابهة مع تلك التي رُسم بها نجاح صناعة النفط، العامل المشترك فيها هو الشراكة مع الأقوياء. وعليه بدأ التواصل مع صُنّاع السوق، لعرض الشراكة والتعاون، وبالطبع فإن صُنّاع السوق لا بد لهم من مُحفزات تجذبهم للتعاون مع منافس لهم في طور التشكل، ومن سبل التحفيز عُرضت الشراكة مناصفة في كثير من مشاريع «سابك».

ثانيا تم تحفيز الشركاء بسعر تفضيلي لبعض مواد الخام، بالإضافة إلى إعطاء الشريك الفرصة في بعض الوظائف القيادية في مشروع الشراكة، ووظائف فنية وإدارية أخرى يحتاجها المشروع، بالطبع لقلة الكفاءات السعودية آنذاك، ووافق الأقوياء على الشراكة. تنوعت الشراكات، حيث لم تكن الشراكة في مشاريع «سابك» حصرا على شركة معينة أو دولة محددة بل حسب تخصص الشركات الأجنبية وقوتها في السوق، وهذا التنوع كان بالفعل مصدر قوة وثراء إداري وفني للتجربة الصناعية بأكملها، وكانت المحصلة لهذه الإستراتيجية هو توطين الصناعة والخبرات والتقنية، ونشوء عملاق صناعة البتروكيماويات «سابك».

النهضة الصناعية الثالثة هي الصناعات التحويلية، أي تحويل منتجات البتروكيماويات التي تنتجها «سابك» وغيرها لمنتجات نهائية مثل الأنابيب المختلفة والخزانات والأدوات الطبية، وطيف واسع من المنتجات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية. هذا القطاع من الصناعة تقدم بشكل جيد، حيث أصبح السوق السعودي توجد به منتجات محلية الصنع، ولكن بقيت منتجات كثر تُستورد من الخارج، وبالإمكان تصنيعها في السعودية.

ومن خصائص هذا القطاع أنه يحتوي شركات كثيرة العدد ومتفاوتة الحجم - من متوسط إلى صغير نسبيا - وتطغى عليها الملكية الفردية أو العائلية عكس خصائص شركات البتروكيماويات التي تميزت بضخامة الحجم، ووجود ملكية الدولة ومركزية ومؤسسية القرار.

وبالطبع، فإن تلك العوامل مجتمعة تعطي ميزة تنافسية وقوة تفاوضية للشركات الكبرى للتوسع والنمو. وفي المجمل لم يكن هذا القطاع في مستوى النهضتين الأولى والثانية، ولم يجلب شراكات أجنبية معتبرة لنقل التقنية والخبرة، وكذلك فإن هذا القطاع لم يسهم كثيرا في توظيف وتطوير الموارد البشرية في البلاد كما هو مأمول منه، وهناك جهد كبير يبذل حاليا، للارتقاء بهذا القطاع المهم من الصناعة، وأهم تلك الجهود المبادرة التي أطلقها ولي العهد صاحب السمو الملكي، الأمير محمد بن سلمان، وفقه الله، هذا الشهر، للنهوض بقطاع الصناعة بالكامل كجزء من «رؤية 2030».

ختاما، السعودية تمتلك - بفضل الله - كل مقومات النجاح في الصناعة، فالمواد الخام متوافرة، والتقنية في المتناول، والموقع الجغرافي منافس، والمواني والخدمات اللوجستية في أفضل حالاتها، وتوجد طاقة بشرية واعدة، وإجراءات الاستثمار يُسرت بشكل كبير، وفوق ذلك هناك دعم لا محدود من الدولة، وعوضا عن تصدير المواد الخام لمصنع يُصدر إلينا، نحن أولى بالتصدير إلى العالم. كل المؤشرات تُبشر بنهضة صناعية رابعة.