في زقاق لا يتعدى عرضه المترين يفصل بين بيتنا وبيت اللواء يوسف بسيوني بحي الشرقية بالطائف قابلت عبدالله باخشوين للمرة الأولى، وكان نحيلا هادئا يعمل مع البسيوني، فإذا فرغ من عمله جلس على عتبة الباب الجنوبي للبيت يقرأ كتابا ولا يهتم بالمارة القلائل الذين يمرون بجواره، وكنت وقتها بالمرحلة المتوسطة يريني بعض كتبه التي يأخذها من السيد اليمني في شارع البريد القديم، وأريه الكتب التي قدمها لي والدي رحمه الله هدية النجاح وهي كتب كان قد رشحها لوالدي عبدالله العرابي صاحب المكتبة الشهيرة المجاورة لدكان والدي في دكاكين المشروع بالصفا التي انتقلت إليها مكتبات دار السلام ببرحة الفل بعد التوسعة الشرقية للمسجد الحرام، كانت بيد عبدالله روايات مختلفة وبيدي بعض كتب محمد أحمد باشميل عن غزوات الرسول ضمن سلسلته معارك الإسلام الفاصلة والسير الشعبية للأميرة ذات الهمة وأبو حمزة البهلوان والمياسة والمقداد، وفي يوم فوجئنا بانتقال البسيوني من بيته إلى جهة لا نعلمها في سننا آنذاك واختفى معه عبدالله، هذا الزقاق الضيق عبره كثير من أدباء الثمانينات وما قبلهم في الطريق إلى «أبو محمود» مثل سعد الحميدين وفايز أبا وسعيد السريحي وعالي القرشي وعايض الثبيتي وقينان الغامدي وصالح الأشقر وسعد الدوسري ومحمد الثبيتي وحامد بدوي ومحمد الطيب وعبدالعزيز الصقعبي وخالد المحاميد وعبده خال وعبدالمحسن يوسف وعبدالله باهيثم ومصطفى إدريس وغيرهم.
قابلت عبدالله مرة أخرى في برحة القزاز حين انتقل دكان والدي من خان القاضي إلى أمام مسجد الهادي فأصبحنا نلتقي، وكنت وقتها في المرحلة الثانوية وعبدالله ما زال كما هو بجسده الناحل وروحه الساخرة وعينيه اللامعتين، وقراءاتنا صارت أكثر نضجا، وعرفت عن طريقه روايات تشيخوف وديستوفسكي بترجمات سامي الدروبي الذهبية، وبعض كتب اليسار في الوقت الذي كنت فيه دائرا في فلك كتب الإخوان المسلمين والقومية العربية مثل مصطفى السباعي ومحمد محمد حسين وخاصة كتابه الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر وحصوننا مهددة من الداخل وساطع الحصري ودواوين البارودي وحافظ وإسماعيل صبري، وكنا نلتقي على رصيف ركن المسجد المقابل لشارع البريد القديم حيث مكتبة السيد أو في البخشة الدائرية الترابية لبرحة القزاز حيث تقف السيارات أو نسير أحيانا بمحاذاة الجدار الحجري للقشلة العسكرية، ولكن كنا مختلفين في أفكارنا نتاج قراءاتنا في تلك الفترة ودراستي في دار التوحيد، ويكون معنا أحيانا عبدالله نعمان الذي يأتي خصيصا من اليمانية، فيما يتشارك العبادلة الثلاثة نعمان وعبدالله غنيم وباخشوين الاهتمامات القرائية، ونلتقي بعد ذلك قليلا في ملعب نجمة في المساحة الفاصلة بين مدرستي دار التوحيد وبيته في العزيزية عند جبل الحبالى قريبا من شركة الكهرباء، وانقطعنا بعدها حيث اختفى عبدالله كعادته وغادرت أنا إلى مكة للدراسة في كلية الشريعة.
بدأت أتابع عبدالله من خلال الجنون الصحفي المبهر الذي يمارسه مع الأديب والصحفي الأميز فهد الخليوي في اقرأ عبدالله مناع، وعلمت أن عبدالله انتقل إلى جدة حيث عمل في عكاظ ثم التقى بالمناع حيث مؤسسة البلاد من جهة وعيادة طبيب الأسنان صديق المناع التي كان يعمل فيها باخشوين، وبدأت مرحلة الصحافة المجنونة في حياة عبدالله مع زميله فهد الخليوي بقيادة المايسترو عبدالله مناع، وما زلت أذكر الملحق الذي أعده عبدالله ومحمد سحلي وعبدالله الغامدي عن عسير بتنسيق بين المناع وعلي العمير متعه الله بالصحة مدير عام البلاد آنذاك، وتصدر الملحق حوار مع خالد الفيصل وعنوان «العاشق يتحدث عن معشوقته».
جاءت اللحظة الفاصلة في حياة عبدالله عندما كتب مقالة جريئة في عمود نحيل بـ«اقرأ» أثارت ضجة كبيرة وخشي الناس فيها على المناع وباخشوين، وخشي عبدالله أكثر عندما أخبره البعض بأن عاقبة المقال وخيمة ونصحوه بمغادرة البلاد إلى أن تهدأ الأمور، وهنا ارتكب عبدالله غلطة عمره عندما سمع النصيحة وسافر سريعا إلى العراق وترك مكتبته الثمينة المنتقاة عند صديق عمره عبدالله غنيم وعبدالله نعمان، فيما ترك أصول قصصه الأولى عند سعد البقمي وهي التي كانت نواة مجموعته القصصية (النغري)، وعمل فترة في مجلة «ألف باء»، وكتب عن تجربته هذه في سلسلة مقالات جميلة في اليمامة بعنوان مذكرات مثقف سعودي في العراق، ولكنه لم يقل فيها كل شيء، ولكنه كان يبوح ببعض المرارات عندما حاربوه لأنه رفض الانضمام لحزب البعث ورفض أن يكتب ضد السعودية فانتقل إلى مجلة «وحي العمال» حتى يبتعد عن الإملاءات، وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية قابله الأديب عبدالرحمن منيف وسأله لماذا لا ترجع إلى السعودية؟ وأنت غير مطالب بشيء هناك ولا مشكلة لديك، ولعل عبدالرحمن كان يوصل رسالة له، وفعلا عاد عبدالله إلى السعودية بعد 5 سنوات تقريبا، وقضى يوما في الطائف لزيارة أمه واستدعي بعدها للرياض لطرح أسئلة عليه استغرقت أسبوعا، وفي نهاية الأسبوع استدعاه الأمير وطمأنه بأنه لا ملاحظات عليه وسأله إن كان يحتاج إلى بيت أو سيارة أو أي أمر آخر؟ فأجاب عبدالله كالعادة بأنه بخير وعنده بيت وسيارة وهو في الواقع لا يملك شيئا منها، وعمل بعدها في مجلس التعاون الخليجي مع عبدالله بشارة في القسم الثقافي واستمر فترة لا يقوم بشيء غير قراءة الصحف والمجلات، وفي هذه الأثناء عرض عليه الدكتور فهد العرابي الحارثي العمل باليمامة فوافق مضحيا بالراتب العالي في المجلس قابلا براتب أقل بكثير في المجلة، ثم غادرها إلى جازان، وأشيع وقتها أنه انكفأ وعزل نفسه هناك بسبب إحساسه بالانكسار من خذلان الأصدقاء وجفوة المثقفين والواقع أنه انتقل بسبب عمل أم محمد، وقابل وقتها الدكتور محمد عبده يماني وسأله إن كان يحتاج إلى شيء فأجابه عبدالله إن كنت تريد أن تقدم لي شيئا أعطني رخصة محل فيديو، وفعلا حصل على التصريح وفتح محل الفيديو في أبوعريش، وسانده هناك رجل مثقف ولكن لا علاقة له بالحركة الثقافية تربطه به صلة قرابة اسمه نهاري حوباني، واستقر هناك مع زوجته عفاف إسلام تلك السيدة العظيمة التي وقفت معه وساندته في أحلك الظروف، وكان محله وبيته ملتقى للأدباء والمثقفين ومكتبته مشاعة للجميع، دعانا ليلة في بيته مع السريحي وعالي القرشي وعمر طاهر زيلع وعبده خال وأحمد عائل فقيه وعبدالمحسن يوسف وعدد من الفنانين والشباب لا تحضرني أسماؤهم، وعمل فترة مراسلا لصحيفة الوطن الكويتية.
بعد أن كبر أبناؤه محمد وحكم وفاروق وبنته فاطمة انتقل مع أسرته إلى جدة، وشارك في تأسيس مجلة استجواب حيث كان مديرا للتحرير ومدير مكتبها بجدة، ويرأس تحريرها فاروق البقيلي في بيروت مقرها الرئيسي، وعبدالله هو الذي رشح البقيلي لرئاسة التحرير حيث يرى فيه وفي المناع عرابي الصحافة، ومجلة استجواب تحتاج إلى حديث طويل لما تمثله وقتها من طرح اجتماعي وثقافي مختلف، أسسها الصديق محمد سحلي مع ثلاثة شركاء كبار، وأصدرت 176 عددا أسبوعيا من 1992-1997 حتى صدر قرار إغلاقها، ومن أكثر أعماله الصحفية تميزا وجنونا في استجواب الحوار الذي أجراه مع والدته «حميدة» أم حسن، وهي شخصية عجيبة كانت تعمل طبيبة شعبية وقابلة ويعتبرها أهل الحارة بالعزيزية أمهم جميعا، وضرب الحوار بكل مكان وكتب عنه الصحفيون كالجفري في السعودية وغيره في الخليج ولبنان والعراق. هذا غيض من فيض من حياة عبدالله حكم باخشوين الأديب القاص الصحفي القلق، وهناك تفاصيل كثيرة لو جمعت لكانت مادة خصبة لعمل سينمائي غير عادي.