ما أعظم الإنسان الأول عاش في الغابة فإذا هو بالتهدي يتعرف على الحنطة، يحصد حبات القمح، يكتشف النار، فالقمح والنار وما إلى ذلك من الغذاء ومواد البناء صار بهما الإنسان في عهده الأول إلى بناء السرة والقرية والقبيلة، فالشعب فالأمة فالدولة.. وإذا الحضارة ما أبرزها وأعظمها صنعها الإنسان بالأمس.

وإنسان اليوم لم يصنع حضارة، وإنما هو بوسائل المدنية، وبهداية العلم لا بالتهدي، يخرب ما بناه الإنسان الأول.

فقبل يومين سمعت حديثا عن الطاقة من إذاعة لندن، فإذا بي أرتجف من الفجيعة صنعها لي إنسان اليوم.


قالوا: إنه لقد بدأت في الولايات المتحدة وفي البرازيل استخراج أو تقطير الكحول (السبرتو) من القمح ومن الذرة، أي غذاء الإنسان، حتى إذا أتلفوا هذه الحنطة والذرة وما إليها بالتقطير والتخمير، وتحصلوا على الكحول، يضيفون 10 % إلى 90 % من البترول كطاقة تسير بها المصانع والمحركات والسيارات، أليس هذا تلفا باسم الترف؟ من أجل سيارات، من أجل بعض الحركات تباد الحنطة والذرة، وبعدها الأشجار والفواكه وكل شيء يمكن تقطيره كحولا ليكون ذلك ترفا للمترفين، وهلاكا للجائعين.

لقد كنت في غفلة حين تفاءلت بأن المتوفر من الحنطة وهو أكثر من 17 مليون طن منعوه عن الاتحاد السوفيتي عقابا لغزوه الأفغان، فقد تفاءلت أن هذا الوفر من القمح سيكون طعاما للجياع يباع بثمن أقل من سعره الآن، وكان تفاؤلي ليس شماتة في الاتحاد السوفيتي، وإنما هو الإشارة إلى أن ارتفاع سعر الحنطة والأرز لم يكن متوازيا مع أسعار البترول، وإنما كان السبب الأصيل هو أن الاتحاد السوفيتي يأخذ هذه الكميات الهائلة من الحنطة لا ليوزعها على شعبه، وإنما يبيعها بسعر مرتفع للشعوب التي تشتري منه، والتي هي في حاجة إلى الغذاء، والولايات المتحدة تعرف هذا، ولكن استجداء الوفاق حمل الولايات المتحدة على أن تبيع الحنطة إلى الاتحاد السوفيتي، ولا مبالاة بأن يرتفع سعرها أو أن يجوع الناس.

وتكرر عدم المبالاة بهذا العمل، الكحول من القمح، والجوع للإنسان، ولا أدري لو أن البرازيل عمدت إلى تقطير الكحول من البن فهل يسكت الشعب الأمريكي، يطلب من البرازيل ألا تقطر مادة القهوة.. يكفيها أن تقطر كحولا من القمح، ولا تستغربوا تقطير البن، فإن كل مادة يمكن تخميرها والتقطير منها، وليرحم الله أبا بكر الرازي فهو أول من علم الناس كيف يقطر الكحول.. أفليس الإنسان الأول كان عظيما، وإنسان اليوم أصبح مخربا لا يبالي أن يموت الإنسان جوعا لتسير السيارات نحو دور السينما.. نحو الجبال للتزحلق على الثلج، إلى غيرها من وسائل الترف.

من أجل 10 % تضاف إلى البترول تهلكون الناس بالجوع، ألا يمكن أن يقتصر الاستهلاك بنسبة %90 ويتوفر القمح؟

أن توفر 10 % من استهلاك البترول لا يحيل الترف شظفاً، وإنما هو بالقاء على الحنطة يحيل الشظف ترفاً.