قالت العرب أن الْإِنْصَافَ أحسنُ الْأَوْصَاف،، وذهبت بعيداً في ذلك فقالت إن الإنصاف كلٌ لا يتجزأ، فلا يعقل أن تكون متحيزا ومنصفا في آن. العقل والمنطق وقبل ذلك ديننا الحنيف، كلها تعطي كل ذي حق حقه، وخصوصا إذا كان من فئة المخلصين والمميزين.

فهؤلاء بالنسبة لهم خط أحمر، لا ينبغي المساس بهم فهم القدوة وهم ميزان العطاء وعماد أي منظومة، فلا يُبخس كل متفانٍ وصاحب بصمة، بل يُمنحون الأوسمة ويفاخر بهم، وإن كان من ميل أو قصور في ذلك فهو قليل لا يعكر صفو الكثير، وأقصد هنا أننا كنا نعيش في جلباب الإنصاف، ولا نبتعد عن مراحه و أطنابه.

وأما اليوم فلعلكم ترون مثلي أن الوضع قد اختلف كثيرا، فلم يعد للإنصاف ذلك الوجود والحضور الطاغي أو المفترض كمجتمع مسلم، لقد اختلت الموازين وبشكل لافت حتى فقدنا الثقة في حضوره، ولو بقليل من تلك الأوصاف.


لاحظوا كيف صار الإنصاف أعز مطلوب وأكثر مفقود، وشاهدوا أيضا كيف فقدنا الثقة فنبذل الوساطات و نقدم التنازلات، ونسعى بكل الأشكال لحق هو من حقوقنا، وكل ذلك خوفا من أن تميل الكفة.

لقد فقدنا الثقة من كثرة ما نشاهد ونرى ونسمع من وأد للحقوق وسلب للاستحقاقات تحت بند الوساطة والمحسوبية. وباختصار مفيد، المصلحة اليوم هي التي تسيطر والأنانية لا تقصر، أو تقصَر، ووسط تلك المعمعة لك أن تتخيل أي إنصاف سيحضر؟!

معمعة لو نطق بها لسان المخلصين لقال لا الزمان زماني ولا المكان مكانيا، فواقعنا الذي نعيشه اليوم مؤلم حقا، لدرجة أننا نرضى فيه بالحد الأدنى، رغم أنه كما قلنا إن الإنصاف كلٌ لا يتجزأ، ولكننا نرضى فيه بأقل من تلك الأوصاف.

فالمهم لدينا أن نكون في منأى عن الظلم والإجحاف؟ ومن هنا سأحاول اليوم أن يكون حضوري مختلفا، على الأقل بقدر اختلاف وتباين الواقع الذي نعيشه. سأحاول أن أجعل حروفي تتحدث بلسان الماضي، وتنطق بالعرفان وعظيم الامتنان لمن يستحق، لعل وعسى أن تذكر أو تعيد الأمل والتوازن في تلك الكفة.

لعل الجميع يدرك أنه في غمرة انشغالنا وأنانيتنا، علينا ألا ننسى أن نحافظ على مبادئنا وقيمنا، لنحفظ بذلك احترامنا لأنفسنا قبل احترام الآخرين. صحيح أن الزمان اختلف، واختلف معه توزيع مساحات الاهتمام، أو تقديم الشكر والامتنان لمن يستحق ممن حولنا، فلم تعد هناك مساحة أو وقت بالقدر الكافي، لا لذلك ولا حتى لأشياء أهم في حياتنا!. لذلك لن أطيل عليكم من بوابة حقوق الإنسان ولا القصور في الأداء أو النظام، ولا حتى مصلحة العمل، وإنما من باب من خدموا وقدموا وتميزوا.

سأطل عليكم اليوم من بوابة هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهذه البوابة تحديدا فهي الوحيدة التي أدركتها، وأما ما سواها فقد أغلق دوني لدواعٍ أمنية. لطفا تذكروا معي من ترجلوا أو رحلوا من بيننا، من خرجوا بصمت أو من الباب الخلفي بلا اهتمام، ولا حتى مأسوفا عليهم طويت أو أغلقت صفحتهم، حتى باتوا مجرد سطور في سجل الذكريات.

تذكروهم ولا تبخسوهم بل ادعوا لهم و اشكروهم، وإن استطعتم اتخذوا منهم قدوة، تذكروهم، أهلا أثروا حياتنا، أو أحبابا أناروا دروبنا، أو زملاء كانت لهم بصمة. فهناك من لم يبلغوا معشار ما بلغوا، ورغم ذلك نالوا حظا من التكريم والتقدير، يفوق بعضه الوصف فيما هم دفنوا في غياهب الجب، قصورا منهم أو تقصيرا ممن حولهم، لكن الأكيد أن غياب الإنصاف كان حاضرا معهم. وكم أود هنا لو سردت بعض الأسماء، ولكن خوفي من ألا يلامس الإنصاف حقهم يجعلني أحجم عن ذلك.

نعم إن من باب الإنصاف علينا ألا ننساهم، حتى في غمرة انشغالنا، وأقصد من كانت لهم بصمة أو تأثير في حياتنا. إن لم يكن من باب الإنصاف فعلى الأقل على تلك السنين التي قضوها معنا، ولم نلمس أو نعهد منهم إلا كل خير وتميز. نعم قد تقف العلاقة وتقصر المحبة، أو يحمر مؤشرها، لكن المهم ألا تزول بالكلية وألا يغيب الإنصاف، ويحضر بدلا عنه الإجحاف، لنكن منطقيين حتى في الخصومة.