للعادات التي ينشأ عليها الإنسان أثرها المستقبلي كما هو معلوم بدءا بما يكتسبه في طفولته المبكرة وما يعتاد عليه من أنشطة بدنية أو سلوكية أو لغوية، ولهذه الأخيرة فعلها الذي لا يخفى بمجرد تقدم العمر ودخول المدرسة ومرورا بما يواجهه في حياته من مواقف تفرض عليه استخدام مهاراته اللغوية والتعبير عن آرائه وانتهاء بما يهواه من فنون لها علاقة بمقدرته اللغوية كالكتابة الإبداعية على سبيل المثال.
والقراءة بوصفها إحدى المهارات اللغوية الرئيسة تمر كغيرها من المهارات بحالات مرضيّة تتطلب تشخيصا دقيقا وعلاجا مباشرا، فمن منا من لم يتسلل الملل والنعاس إلى نفسه لحظة تصفحه لكتاب أو مجلة أو مطبوعة ما؟ ومن منّا من لم يعاتب نفسه لأنه قرأ كثيرا لكنه لا يكاد يتذكر شيئا مما قرأ أو على الأقل يستعيد بعض ما حوته المادة المقروءة من شخوص أو تواريخ أو أحداث؟ وهناك من لا يزال يمر بأصبعه على السطر يتلمس الأحرف وينطقها بصورة متقطعة بطيئة في شكل من أشكال التأتأة، ناهيك عن ذلك الذي يقرأ سطرين ثم لا يلبث أن يعود تارة أخرى لقراءتهما من جديد بدعوى التركيز وزيادة التأكيد.
إذن نحن أمام عدد من الأدواء القرائية التي اكتسبناها جراء عادات غير صحيحة منذ سني التعلّم الأولى، فقراءة التهجي تفتك بتركيزنا وتجعلنا بطيئي القراءة، كذلك ما يسمى بـ"عسر القراءة" الناتج عن عدم القدرة على نطق الحروف بسلاسة وتماسك وفق ما تمليه الوحدات اللغوية "الكلمات والجمل والعبارات"، إضافة إلى داء "النكوص" الذي عبرنا عنه بالعودة إلى أوائل السطور والجمل لزيادة التركيز، وهو ناتج عن بطء القراءة وعدم مناسبة سرعتها لسرعة التركيز والاستيعاب التي فطر الله عليها العقل البشري، إذ تشير الدراسات إلى أن سرعة العقل بالكلمات في الدقيقة الواحدة تقترب من عشرة آلاف كلمة فيما متوسط سرعة القراءة لدى طالب الجامعة اليوم لا يتجاوز في أحسن حالاته مئة كلمة في الدقيقة، وهذا مستوى متدن جدا لا يتيح للعقل أن يتنبه لما يُقرأ باعتبار فارق السرعة الشاسع، وعليه فإن على القارئ أن يطور من سرعة قراءته صامتا وبالعين مباشرة دون الإشارة إلى الكلمات أو السطور لتتمكن العين من التدرب على توسيع المدى البصري الذي يمكّن من التقاط الوحدات اللغوية العظمى "العبارات" دفعة واحدة، وهذا ليس مستحيلا إذا ما امتلكنا الاستعداد للتدرب والممارسة الحقة حينها تتراجع أدواء القراءة وتصبح ساعة تقضيها مع كتاب هي أمتع وأغلى الساعات.