لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم إذا تحكمت فيه هذه الرؤية المصممة علي أن يتحكم الموتي في الأحياء. ومن المؤشرات الدالة علي سيادة عملية «إعادة اختراع التقاليد»، تراجع الفكر العلماني الذى يفصل بين الدين والدولة، في ظل التشويه المتعمد من قبل أنصار الفكر الإسلامي المتطرف، الذي يصف «العلمانية» بأنها «كفر».

هذا التراجع العلماني تم لحساب الفكر المتطرف الذي يدعو إلى إنشاء دولة إسلامية، أي دولة دينية تصبح الآلية الأساسية للقرارات فيها هي الفتوى، وليس التشريع الذي تقوم به المجالس النيابية المنتخبة تحت رقابة الرأي العام. وإذا أضفنا إلى ذلك الدعوات التي تنادي بـ«أسلمة المعرفة»، بمعني أخذ المعرفة الغربية ثم أسلمتها، وإذا تم ذلك - وهذا مستحيل - سيؤدي إلى عزل العرب عن التيار المتدفق للمعرفة العلمية في مجال العلوم التطبيقية، كما هو الحال في مجال العلوم الاجتماعية. في الاتجاه نفسه تصب الكتابات التي تكاثرت في الفترة الأخيرة عن الإعجاز العلمي في القرآن، التي لا تفعل إلا الفخر بسبق القرآن للعلم الحديث، مع أنه كما هو معروف ليس كتابا في العلوم، بالإضافة إلى أن هذه الدعوات يمكن أن تضع النصوص الدينية في حرج، لأن العلم متغير، لذلك دعونا منذ سنوات إلى شعار مؤداه «أن العلم يقوم علي الشك في حين أن الدين يقوم علي اليقين».

وبالإضافة إلى ذلك، ما هو فضل الذين يرددون شعار الإعجاز العلمي للقرآن من المسلمين في حين أن الغربيين هم من ينتجون العلم، وهم الذين يبتكرون التكنولوجيا، وهم الذين كل يوم يعلنون اختراعاتهم النافعة للبشرية جمعاء؟.


أليس في هذه الدعاوى العريضة غير المؤسسة علي الحقائق تعبير فج عن الإحساس بالدونية أمام الغربيين من العلماء والمبتكرين والمبدعين؟!.

إذا كانت مرجعية الحياة ستصبح هي الماضي، فماذا سيفعل المسلمون في الحاضر؟!، وما هي رؤية العالم التي سيمارسون حياتهم في ضوئها؟!، خصوصا ونحن نعيش في عصر «العولمة»، حيث لا تغني المقاطعة الثقافية ولا العزلة الدولية.

يطرح علي الثقافة العربية، في الوقت الراهن، كيف ستتفاعل مع «العولمة» بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟، ولا بد أن نبدأ بتساؤل:

هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض «العولمة»، يكشف عن تعجل في إصدار الأحكام بغير تأمل؟ وإذا كان صحيحا أن «العولمة الراهنة» تكشف عن ذروة من ذري تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة وسيكشف في المستقبل المنظور أن «العولمة»، بغض النظر عن نشأتها الرأسمالية لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها علي المستويات كافة إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولايات المتحدة الامريكية أو حتي لمجموعة من الدول الكبرى أن تهيمن هيمنة كاملة علي العالم، سياسيا واقتصاديا وتكنلوجيا وعلميا، وإلا حكمنا علي شعوب الأرض جميعا بالعقم وعدم الفاعلية.

فـ«العولمة» عملية تاريخية غير قابلة للارتداد، وهي في النهاية تعبر عن حصاد تقدم إنساني تم عبر القرون الماضية، أسهمت فيه شعوب وحضارات شتى.

هل يمكن مثلا محاربة شبكة الإنترنت من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها؟ مع الاعتراف بسلبيات متعددة في نصوصها، هل يمكن مقاومة بزوغ وانتشار ثقافة كونية تحمل في طياتها تبلور الوعي الكوني بأخطار البيئة علي سلامة الكوكب نفسه؟.

اقترب من النهاية لأقول: يجب إتاحة الفرصة للشعوب، لكي تمارس إبداعاتها في المجالات كافة، وهناك ضرورة عاجلة لتقنين حق التدخل، حتي لا يشهر كسلاح ضد الشعب العربي خاصة وغيره من شعوب الجنوب.

كما أن قضية حل الصراعات بأسلوب سلمي، وتحقيق السلام العالمي، وعدم تشويه الثقافات، وإعادة النظر في مفهوم التنمية علي المستوي العالمي، كل هذه ميادين تحتاج إلى نضالات متواصلة، لضمان صياغة نسق عالمي يحترم حرية وثقافة الشعوب، دون غرض قيود أو تشويهات، ويسهم في تقدمها في ظل حضارة انسانية.

وفي إطار هذا التقييم العام لـ«العولمة»، يظل السؤال الجوهري: ما هي تأثيرات «العولمة» في العالم العربي؟.