في يوم 15 أغسطس الماضي، هاجمت جماعات إرهابية تنتمي إلى تنظيم "القاعدة في العراق" سبع مدن عراقية بقيامها بسلسلة من التفجيرات المنفصلة بلغ عددها 15 تفجيراً واستخدمت سيارات مفخخة ضد قوات الأمن وأسواق مدنية وزوار لبعض المناطق ذات الطابع الديني. وقد كانت تلك الهجمات الأولى من نوعها في العراق من حيث حجمها الكبير والتنسيق الذي شملته منذ أغسطس 2010 عندما ضرب تنظيم القاعدة في العراق 12 مدينة عبرأنحاء البلاد. إن هجمات 15 أغسطس هي بلا شك مثيرة للقلق لأنها تؤشِّر على أن خلايا التمرُّد المتفرقة التي تنتشر عبر وسط وشمال العراق يمكنها أحياناً تنسيق هجماتها لإحداث تأثير مضاعف. وقد نشر "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في أغسطس الماضي تقريراً كتبه مايكل نايتس حول الوضع في العراق قبيل الانسحاب العسكري الأميركي الوشيك والقوى المتصارعة على الساحة العراقية واحتمالات سيطرة هذه القوى على الشارع العراقي بعد الانسحاب الأميركي.
يقول تقرير معهد واشنطن إن قيادة تنظيم القاعدة في العراق قد تفككت بعد مقتل زعيمها أبو عمر البغدادي والمسؤول العسكري في "التنظيم" أبو أيوب المصري في أبريل 2010. ومنذ ذلك الحين ملأت الفراغ جماعات مثل "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، وهي حركة تمرُّد يقودها ضباط ومسؤولون بعثيُّون سابقون. وتلعب هذه الجماعات أدواراً تنسيقية وتقوم بتكليف خلايا من تنظيم القاعدة في العراق وأخرى وطنية للقيام بهجمات في جميع أنحاء البلاد مع زيادة عدد الهجمات في شمال ووسط العراق.
لكن نظرة فاحصة على ظاهرة تفخيخ السيارات في العراق تُظهر أن الجماعات المسلحة مثل "جيش رجال الطريقة النقشبندية" تقوم بتنفيذ القليل من الهجمات المُذهلة التي تخطف عناوين الصحف، لكنها تركِّز أكثر على القيام بأعداد كبيرة من الهجمات الأصغر حجماً، وذلك لتضع نفسها في عهد ما بعد الوجود الأميركي في العراق.
ومن ناحية أخرى، فإن محاولات القيام بالهجمات التي تحقق قدراً كبيراً من الإصابات قد زادت هذا العام، حيث وصل متوسط عددها في النصف الأول من عام 2011، إلى 13هجوماً في الشهر، مرتفعاً إلى 33 في شهر يوليو وحده مقارنة بـ 20 هجوماً في يوليو 2010. ويبدو أن إجمالي عدد الهجمات في أغسطس الماضي قد تجاوز 40 هجوماً.
لكن الهجمات أصبحت أقل فتكاً، حيث تراجع عدد السيارات المفخخة الانتحارية عما كان تنظيم القاعدة في العراق ينفِّذه في فترة من الفترات. كما أن تفجير السيارات المفخخة بأجهزة تحكُّم عن بُعد يقلل من الدموية، لأن المتفجرات التي تحتويها ربما لا يتم تفجيرها في الوقت أو المكان الأمثل. وعلاوة على ذلك، فإن مُحصلة التفجير في قنابل السيارات أقل بكثير مما كانت عليه في السنوات السابقة بسبب صعوبة تمرير عبوات كبيرة عبر نقاط تفتيش كثيرة لمرور المركبات في العراق. وكانت كل قنبلة انفجرت في 25 أغسطس 2010 قد أسفرت عن مقتل 9.6 أشخاص في المتوسط، بينما أدت القنابل التي انفرجت بكل عبوة ناسفة في 15 أغسطس 2011 إلى مقتل 4.2 أشخاص في المتوسط.
والهجمات المُنسَّقة مثل تفجيرات 15 أغسطس الماضي تسمح للجماعات الإرهابية بجذب اهتمام دولي للحظة قصيرة. إن دموية التفجيرات هو أمر ذو أهمية ثانوية، لأن ما تهتم به هذه الجماعات بصورة أكثر هو إظهار مدى أهميتها، وضمان مكانتها ضمن الحركات المُسلَّحة بعد الانسحاب الأميركي، وجذب التمويل أيضاً. ويبدو أن تفجيرات 15 أغسطس كانت نتيجة تخطيط مكثف لتنفيذ هجوم يتزامن مع شهر رمضان المبارك، ويكون معنياً بتسليط الضوء على اتساع وتماسك عمليات التمرد.
غير أن أغلبية الهجمات التي تُحدث إصابات كبيرة في العراق لا يُقصد منها جذب الانتباه الدولي، بل إنها هجمات محلية تقوم بها خلايا متفرقة. ويُظهر اختيار الأهداف ما آل إليه العنف السياسي البيني في العراق. ومع بعض الاستثناءات نجد أن معظم تفجيرات السيارات تستهدف أهدافاً سهلة مثل نقاط تفتيش قوات الأمن العراقية المكشوفة ومباني البلدية والأسواق المدنية. وحيث مال تنظيم القاعدة في العراق ابتداءً من أوائل عام 2010 إلى الهجوم على أهداف وطنية مرئية بصورة واضحة للغاية مثل الفنادق والوزارات الحكومية ومقرات الإعلام، فإن معظم تفجيرات السيارات توجَّه الآن ضد العراقيين الناشطين في السياسات المحلية وتنفذها خلايا إرهابية متمركزة في أماكن قريبة. ويُركِّز المتمردون الآن بشكل مباشر على الصراع من أجل الهيمنة على قوة الشرطة في الحي المعيَّن أو مجلس المنطقة الفرعية أو محكمة المنطقة أو أجزاء من التضاريس الحيوية التي لها أهمية محلية. كما يحاربون من أجل الهيمنة على المجتمعات المحلية في حين أن الحكومة المختلة وظيفياً هي في حالة تغيير مستمر وتعجز عن تعيين جميع مناصبها الوزارية أو الموافقة على تشريع حيوي، في الوقت الذي تكون فيه الولايات المتحدة منهمكة في انسحابها.
وباستثناء الهجمات المعادية لأميركا التي تنفذها جماعات تدعمها إيران مثل كتائب "حزب الله" و"عصائب أهل الحق" (المنشقين عن الحركة الصدرية وحزب بدر السياسي الذي له روابط مع أجهزة الاستخبارات الإيرانية) فإن أغلبية أعمال العنف في العراق لم تعُد تستهدف القوات الأميركية. وفي الواقع، إن معظم الفصائل العنيفة تبدو بالفعل هادئة بعد تخفيض عدد الجنود الأميركيين، ومن ثم فمن المرجَّح ألا يؤدي الانسحاب الأميركي إلى إطلاق العنان لمزيد من أعمال العنف، وذلك لأنه بالنسبة للكثير من العراقيين وبالأخص المتمردين يُعتبر الجيش الأميركي قد رحل بالفعل منذ أشهرأو حتى سنوات في بعض المناطق.
إن الحدث الرئيس في العراق الذي تم تأجيله لسنوات عدة بسبب الوجود الأميركي هو الصراع بين العراقيين للسيطرة على البلاد. وفي عراق اليوم نجد أن أشكال الهجمات الأكثر شيوعاً ذات الدوي المنخفض - التي هي أكثر عدداً بكثير من التفجيرات التي تخطف عناوين الصحف- هي إطلاق نيران من سيارات أو دراجات عابرة، ووضع قنابل تعلَّق في أسفل السيارات الشخصية. وتحدث هذه الهجمات في أغلبها داخل المجتمعات الطائفية (السُنَّة ضد السُنَّة أو الشيعة ضد الشيعة) حيث تعكس صراعاً محلياً متطرفاً من أجل الهيمنة المحتدمة في جميع أنحاء العراق. ومثل هذه الهجمات هي بحُكم التعريف أقل دموية، إذ تهدف إلى التخويف أكثر مما تهدف إلى القتل. كما تُمثل أيضاً الخاتمة الحتمية لحرب أهلية عنيفة ومطولة اصطف فيها بعض أعضاء كل مجموعة مع الحكومة العراقية والتحالف التي تقوده الولايات المتحدة بينما دعم آخرون التمرُّد. وقد حان الآن موعد تصفية الأمور.
تُظهر حملة الاغتيالات في العراق أن الأحزاب السياسية ليست حصينة ضد إغواء المناورات العنيفة. فبعد عام 2003 كانت الأحزاب والحركات السياسية قادرة على التحرك بسهولة عبر أطراف الطيف السياسي كما تشاء. وكانت هناك أحزاب ذات سمعة جيدة نسبياً قادرة على الوصول إلى المنتمين إلى حركات التمرُّد عندما احتاجت تلك الأحزاب إلى اتخاذ موقف متشدد. وقد بدأت الحملة المكثفة للاغتيالات في بغداد عام 2010، حيث تحوَّلت بسرعة الهجمات الانتقائية من قبل جماعات متمردة - مثل تنظيم القاعدة في العراق وجيش رجال الطريقة النقشبندية ضد مسؤولي الحكومة- إلى شجار اشترك فيه الجميع مما انتزع طاقة سلبية من ركود عملية تشكيل الحكومة.
وكما أقرَّ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مؤتمر صحفي عقده في أبريل الماضي، فقد استخدمت الأحزاب السياسية في العراق غطاء الأعداد الكبيرة من عمليات القتل الغامضة للشروع في "اغتيالات سياسية". وهذا، بدوره، أطلق العنان لموجة من الهجمات يُقصد منها التخويف وتصفية الحسابات. ويبدو أن الفصائل الشيعية السياسية التي تشمل العديد من المنشقين عن حركة مقتدى الصدر و"منظمة بدر" و"حزب الدعوة" برئاسة المالكي قد خاضت مشادات ذات دويٍّ ضئيل مع بعضها من أجل الهيمنة على الأجهزة الأمنية المختلفة والتشكيلات الرئيسة في الجيش العراقي وفي المناطق في جميع أنحاء المحافظات الجنوبية.
وكجزء من هذه الصراعات نفذت الأحزاب السياسية الشيعية موجة من محاولات اغتيال من قبل شيعة ضد شيعة أيضاً تم القيام بها ضد قادة فرق الجيش وزعماء الأحزاب السياسية والممثلين المحليين لآية الله العظمى علي السيستاني. وبحلول شهر يونيو الماضي، عندما وصلت الاغتيالات إلى ذروتها، كان كبار السياسيين والموظفين العراقيين يحضرون العديد من الجنازات كل أسبوع. وعلى الرغم من أن وتيرة هذه الهجمات قد تباطأت الآن بسبب شن الحكومة غارات ضد عصابات الاغتيال، إلا أن تزايد الاغتيالات قد ألقى الضوء على العنف الكامن تحت سطح السياسات العراقية.
وكما أظهرت الإجراءات الصارمة التي فُرضت على اغتيالات بغداد، فإن الأحداث يمكن أن تتدهور قبل أن تتخذ الحكومة العراقية التصرف اللازم. فالحكومة لديها "خطوط حمراء" غير مقبولة لزعزعة الاستقرار بشكل عام، وهي الخطوط المفهومة بشكل واسع من قِبل الجماعات المُسلَّحة. وفي أماكن مثل البصرة أدى الضغط السياسي المحلي وعمليات قوات الأمن العراقية إلى تقليص المقاومة المُسلَّحة ضد أهداف أميركية مثل إطلاق صواريخ كثيفة على قاعدة أميركية في المطار.
وبالمثل، فعلى الرغم من زيادة المناورات العنيفة داخل الفصائل الطائفية، إلا أن الحكومة حرصت على اتخاذ خطوات لمنع تفشي أي صراع بين المجموعات الطائفية في بغداد وبقاع ملتهبة أخرى. وبعبارة أخرى فإنه يبدو أن ثمة حدوداً مميزة للمدى الذي يمكن أن يتدهور إليه الأمن في العراق. ومع ذلك، فعلى الجانب الآخر، ربما توجد أيضاً حدود مميزة بنفس الدرجة تخص مدى ما يمكن أن تصل إليه الأمور من تحسن في الأعوام المقبلة.
ولفترة من الوقت، ستكون العراق ثابتة عند هذه الحالة من عدم الاستقرار تتمثل بمعاناة البلاد من هجمات يقوم بها متمردون يتراوح عددها ما بين 300 إلى 500 هجوم شهرياً، وتشمل حوالي 24 محاولة هجومية يقصد منها إحداث أكبر قدر من الإصابات.
على أن التمديد الرسمي للوجود العسكري الأميركي لن يقصّر هذه الفترة من انعدام الأمن النسبي. بل إن هذا التمديد سوف يتحول أيضاً إلى إشكالية بمعنى أن البرلمان المنقسم بشكل كبير والجماهير التي تشعر أيضاً بعدم اليقين ربما لا يكونون مستعدين لمناقشة وإقرار اتفاقية أمنية رسمية تُعدل موعد مغادرة الوحدات العسكرية الأميركية في 31 ديسمبر 2011.
كما لا يزال باستطاعة البعثة الأميركية في العراق أن تحقق صفقة جيدة جداً، حيث يبدو السياسيون العراقيون جاهزين للموافقة على مذكرة أقل رسمية بين وزارة الدفاع العراقية ونظيرتها الأميركية تسمح للولايات المتحدة بتناوب فرق إضافية للتدريب العسكري عبر أنحاء العراق.
وباستخدام تلك الآليات ينبغي لواشنطن التأكد من أن "المكتب الأميركي للتعاون الأمني" في العراق يراقب وينظم الجهود العسكرية العراقية للحفاظ على جميع المجموعات السُنيِّة العربية الهامة. وسوف تتعرض جماعات التمرُّد لتحديات شديدة بسبب فقدان خصمها وسبب وجودها وهو الجيش الأميركي. وهي تقوم بالفعل بتغيير خطابها لتعزيز حجتها للغوص في مقاومة طويلة الأمد ضد الحكومة العراقية مصورة أفراد الجيش ووحدات الشرطة الاتحادية على أنهم إما دُمى موالية لإيران بقيادة شيعية أو وكلاء بقيادة كردية عازمين على تمزيق العراق وطرد العرب من ديارهم.
وأخيراً فإن حركات التمرُّد مثل تنظيم "القاعدة في العراق" و"جيش رجال الطريقة النقشبندية"، بالإضافة إلى نظرائهم الشيعة مثل كتائب حزب الله، تسعى لإدامة العنف بتحويل الكفاح المسلح إلى صناعة، ودفع أجر للعراقيين لشن هجمات بعد فترة طويلة من اختفاء أية دوافع أيديولوجية. غير أن استمرار وجود القوات الخاصة والمخابرات الأميركية التي تستهدف كوادر القيادة الصغيرة لهذه الحركات سوف يبقى إحدى أجدر أشكال التعاون الأمني وأكثرها فاعلية بين البلدين مما يوفر إحدى وسائل إبقاء العنف في العراق عند أدنى مستوى ممكن في السنوات المقبلة.