كما لم يكن جيل دولوز إلا فيلسوف يفهم السينما، والشعر، والفراشات، والحيوانات، والرواية.. إنهم فلاسفة يغرقون في اللافلسفة.
أما اليوم فقد أصبح الفيلسوف يقدم أهله يحمل بين دفاتره أسئلة الإنترنت والسوق والصحة والموت والاستهلاك، وكرة القدم والسياحة والموسيقى الصاخبة والحب.. إنه بطريقة ما يحمل اليومي بين جنبيه، هذا الذي لا يستطيع أحد أن يفكر فيه بطريقة عميقة. سيقول قائل إن العمق يأتي من تاريخ النظر في المفاهيم وإبداعها من جديد، والحال أن هذا تصور كلاسيكي للفلسفة، أما اليوم فعلى الفلسفة أن تغادر أريكتها الباردة، وتنتقل إلى الأسواق وفي أحسن الظروق عليها أن تنتقل إلى مختبرات الأبحاث العلمية، وتشارك اليومي مع العلماء في أبحاثهم الجارية؛ فمفهوم العقل والذاكرة والشخص والغير وقضايا الوجود والقيم مثل السعادة والألم والضياع، كلها مفاهيم يمكنُ فهمها مثلا في مختبرات الطب العصبي وعلم الأعصاب وعلم النفس العصبي، وهذا ما تدافع عنه الفلسفات ما بعد الحداثية، مثلا الأعمال المائزة التي تقوم بها الفيلسوفة الكندية «باتريسيا تشريشلاند»، ويمكن مراجعة كتابها العمدة في هذا الباب؛ وهو «الوعي».
إن مصطلحات مثل الكيمياء العصبية (Neurochemistry)، والسبل العصبية (nerve tracts)، والدماغ (Brain) ومصطلحات أخرى قد تبدو للبعض غريبة عن مجال الفلسفة، خاصة إذا عددنا هذا المجال المعرفي الفلسفي مجالا للمنطقيات الصورية.
والحال أننا اليوم نشهدُ تخصصًا معرفيًا يكاد يكون جنينيًا إن لم نقل جديدًا في بابه؛ فأمام ما تعرفه العلوم التجريبية من ثورة على مستوى دراساتها للإنسان والكائنات الحية بصفة عامة، قد يبدو علم الأعصاب (neuroscience) من العلوم المستقلة عن الفلسفة، هذا إن فكرنا في هذه العلاقة من منطلق تصوراتنا الكلاسيكية، والحال أنه قد بات لنا اليوم التعرف إلى علم فلسفي جديد سمي بالفلسفة العصبية (Neurophilosophy) بعدها علمًا فلسفيًا ينتمي إلى مجال فلسفة الذهن.
غير أن السؤال الذي يواجهنا في هذا المسير يمكنُ أن نطرحه على الشكل الآتي: هل يمكنُ للفلسفة العصبية أن تساعدنا في فهم أنفسنا أكثر، حياتنها اليومية، خطابتنا المتبادلة، أدمغتنا أو«عقولنا»، وبالتالي تفتح أمامنا أفقًا للبحث عن أجوبة لإشكالات مختلفة وشائكة تقارب قضايا أفعال الذات وطبيعة الهوية والنحن مثلا؟ من هنا يبدو مستقبل الفلسفة منفصلًا عن تاريخها، أو خارج تاريخ الحقيقة، فعلى هذا يصح التفلسف.. وأكثر.