أثارت بوادر الأزمة الدبلوماسية بين حكومتي الرياض والقاهرة الأسبوع الماضي هلعاً شديداً لدى الكثير من القوى السياسية والنخب الفكرية في الوطن العربي.. كما وجدت الأزمة رواجاً واسعاً لدى أوساط أخرى تحكمها حسابات، بعضها معلوم ومعظمها موجه لخدمة أجندات متعددة الغايات والمصالح، لعل أبرز غاياتها إضعاف الكيانات العربية القوية وإحلال دويلات صغيرة تؤدي دور ووظيفة المفرقعات الصوتية الضاجة عند الحاجة لصرف الأنظار عن مخططات كبرى.
ومع أن علاقات الدول لا تقوم على ثوابت دائمة، وهي كما في طبائع البشر ينتابها مد وجزر، ويبلغ انحسارها درجة التقاطع أحياناً كما تصل في أحايين عديدة مرحلة التماهي في تعبيراتها وتداخل مصالحها وتشابك وتماثل مواقفها السياسية من القضايا والتحديات الاستراتيجية.. وفي كلتا الحالتين لا يحمل الأمر نفس الأثر الذي أحدثته الأزمة الدبلوماسية السعودية المصرية التي ينظر إلى طرفيها من زوايا كثيرة باعتبارهما صمام أمان في حياة أمة لم تتوقف نكباتها مذ دهم التتار مستودعات ذخائرها من العلوم الإنسانية في بغداد، إلى أن تناولتها مصائد التكتلات الدولية وعبر على سنامها صراع الكتلتين الأوليين الرأسمالية الغربية والاشتراكية السوفيتية فيما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة.. وهي ذات الأمة العربية التي أسلمت الزمام على حين غرة لحكام تعساء أوسعوا شعوبهم قتلاً وحرموا أوطانهم نعمة التطور والنماء وأداروا فتوحاتهم الشيوفينية الباذخة على كل حدب وصوب.. ولم يكفوا أذاهم عن مواطنيهم إلا بعد أن صارت بلدانهم مقراً للغزاة ومعبراً للغرباء.
أقول إن الأزمة العارضة بين قطبي الرحى استدعت حزناً غائراً في قلب الأمة واستنفرت قلقاً عميقاً في الضمير العربي والإسلامي.. فالمملكة العربية السعودية بقيادتها الراشدة ومليكها المعروف بانتمائه العربي الأصيل تمثل أحد أبرز عناوين الهوية الإسلامية بما هي أولى القبلتين ومهوى أفئدة الناس ومهبط آخر الرسالات السماوية، فضلاً عن مؤهلاتها الجيوسياسية ومكانتها الدولية، الأمر الذي يلقي على كاهلها عبء الدفاع عن مصالح الأمة ووجودها الحيوي الفاعل..على أن مصر بتجربتها القومية الفذة ونفوذها السياسي الواسع وثقلها السكاني وإرثها الحضاري وما ينفحه ربيعها الفواح من توثب، تشكل هي الأخرى ركناً قوياً تتكئ عليه أمتنا في مواجهة تحدي الاستلاب وإفشال رهانات التجزئة ومخططات إعادة تحضير محدداتها الثقافية والسياسية.. ومن هنا تنبع مخاوف المراقبين من تداعيات الأزمة، بل وتجمع الآراء على أن أي تدهور في علاقات البلدين سوف يصيب الشعوب العربية والإسلامية بحالة اكتئاب إلى جانب ما تمر به من آثار سلبية ما برح المواطن العربي يجتر إرثها عن نظم الاستبداد الجملكية الغاربة.
وفي تقديرنا أن الدبلوماسية في كلا البلدين لم تحدّث تصوراتها الاعتيادية على نحو يعزز قدرات كل منهما لاستيعاب المتغيرات المحتملة وتفهم المستجدات وإحاطتها بأعلى قدر من المرونة.. فلا الأشقاء في القاهرة وضعوا في الاعتبار حاجة الربيع المصري إلى مساندة المملكة وحاجة التغيير إلى خارطة واضحة تحدد البدايات والنهايات وتضبط إيقاعات الثورة في نطاق حاجات المجتمع، وهم لم ينشغلوا بتقديم نموذج عقلاني مائز يتحاشى زوائد الخطاب الاتهامي ويتجاوز النرجسية الثورية التي لا تفرق بين استهدافاتها الداخلية وما تعتبره قابلا للتصدير، خاصة حين يتعلق الأمر بحكومات محافظة كالمملكة.. وفي المقابل فإن الدبلوماسية السعودية لم تبد هذه المرة بنفس سجيتها المعتادة على تفويت المماحكات الصغيرة والعزوف عن التعاطي مع المواقف الانفعالية -التي تبدر عن قوى وشخصيات سياسية مصرية- بصبر وكياسة ورحابة السعودي..
لقد كانت سياسات ومواقف المملكة في معظم أحوالها بمستوى مكانتها الدينية وثقلها السياسي الدولي، وعهدناها لا تلقي بالاً للمواقف المستفزة التي تستهدف رصانتها، وهي كما نعلم ما تزال على ذات الوتيرة من الاتزان.
ومن متابعتي تداعيات الأزمة أستطيع الجزم بانعدام أي أفق أمامها، وهي ستنقشع حتماً وتنتهي إلى المعنى الذي قالته العرب في أمثلتها (رب ضارة نافعة)، والمؤكد أن قيادتي البلدين تدركان مغزى الاحتفاء الإعلامي بالأزمة ونطاق الترويج لها ودلالة ارتباطها بدوائر إقليمية ودولية وجدت في المسألة مادة تشتغل من خلالها على تسعير وتغذية الأزمة وتسويقها والتشجيع على إطالة أمدها، بل ومدها بأسباب جديدة تذكيها وتصب الزيت عليها، ريثما تنال من مشاعر الشعبين وتنكل بعرى الأخوة وواجباتها المشتركة إزاء المصير الواحد والهوية الواحدة.
أكرر أن الرهان على تداعيات الأزمة خاسر، فوق كونه "ساذجا سمجا" ولا ريب أن الدوائر المحتفية بمثل هذا اللون من الأزمات العارضة ستجد نفسها مكشوفة دون غطآء، ولعلها بذلك ساعدت حكومتي البلدين على اليقظة والاستعداد لإحباط المؤامرات المتنكبة تلاحم الأمة وتماسك قياداتها بما لديها من ملكات ومواهب تحصنها من الوقيعة والاختراق.
وقطعاً فإن حكومة وشعب المملكة يدركان طبيعة التحولات الشاقة في بلدان الربيع العربي، وكيف أنها، وإن أسقطت العديد من رموز الحكم، ما تزال تكابد آلام المخاض، وإذا جاز لنا البحث عن توصيف أكثر دقة فسنقول إنها لم تضع جنينها الحقيقي بعد! وهي إلى ذلك تجلس القرفصاء محتمية خلف جدار قصير أتاح فرص القفز عليه في ظل أجواء دولية ومناخات إقليمية شديدة التقلب لدرجة تشجيع ثورات التغيير على التوأمة المتزامنة بين لفحات الشتآء ونفحات الربيع.. لهذا تكون الحكومات العربية المساندة حق أشقائها في الخلاص من الاستبداد، وبمقدمها حكومة خادم الحرمين، مدعوة للقيام بمسئوليتها الدينية والقومية تجاه آمال الشعوب والحيلولة دون انقضاض أطراف الصراع الماضوي – في هذه البلدان - على استحقاقات قوى التغيير أو انتقال السلطة من سيطرة الديكتاتور الفرد إلى قبضة الاستبداد العصبوي المقنّع بالأيدلوجيا السياسية أو المذهبية.. وسيكون على الحكومات الراشدة ألا تضيق من انفعالات المتسلقين جدار الثورة، ولكم نتمنى عليها التحفظ على الحقن الإنعاشية التي أحالت ثورات الربيع إلى وجعٍ حاد وأمل صريع.