ضارتان نافعتان، هما المجاعة والجفاف اللذان ضربا منطقة القرن الإفريقي مؤخراً خاصة في الشقيقة الصومال، وأعادا عدسات العرب الإعلامية والسياسية نحو أفريقيا. وكشف تحقيق استقصائي حديث نشرته مؤسسة الفكر العربي ببيروت في أوائل سبتمبر الجاري عن جزء مهم من حالة "التغلغل الإسرائيلي" العميق في محيط منطقة حيوية واستراتيجية كالقرن الإفريقي، حيث يظهر معلومات ظلت مغيبة عن وسائل الإعلام خاصة العربية منها حول حجم الاستثمارات الإسرائيلية الكبيرة بتلك المنطقة في مجال زراعة الزهور، التي تدر عليها أرباحاً سنوية، لا تقل في مجملها عن أربعة مليارات دولار.

كما أوضح التقرير في بعض جوانبه "التغلغل الإسرائيلي" في "صناعة الزهور" إما بشركات إسرائيلية صريحة أو عبر الكواليس كإدارتها مثلاً لشركة "مونصو فلور" (Monceau Fleurs) أكبر شركة فرنسية "بتمويل إسرائيلي" لنقل الورود مباشرة من إثيوبيا وتوزيعها عبر أوروبا وبيعها إلى مختلف أنحاء العالم، كما يشير التحقيق الاستقصائي أيضاً إلى وجود 250 شركة أجنبية على أراضيها مختصَّة في زراعة الورود، تعود ملكيتها في أغلبها إلى الإسرائيليين والهولنديين.

تكالب دولي


وتاريخياً يمكن أن نشير إلى مرحلة التكالب الدولي على إفريقيا خلال العقدين الأخيرين من القرن الـ19 ، تنافست كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من أجل السيطرة على المنطقة، وخلال فترة الحرب الباردة كانت المنافسة حامية الوطيس بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وذلك لكسب ولاء أنظمة الحكم الوطنية في هذه المنطقة المهمة من العالم، ولا أدل على ذلك من تغير توجهات السياسة الخارجية لدول مثل السودان والصومال وإثيوبيا واليمن.

وبعد انتهاء فترة الحرب الباردة عانت منطقة القرن الإفريقي الفوضى وعدم الاستقرار، حيث شهدت مظاهر ترتبط بنموذج "الدولة الفاشلة"، مثل القرصنة، والجماعات الجهادية الراديكالية التي تؤمن بالعنف وسيلة لتغيير النظام الحاكم، أو أنها تسعى إلى تأسيس دولة الإمارة الإسلامية، كما هو الحال بالنسبة لنموذج جماعة شباب المجاهدين في الصومال، ولعل ذلك كله أدى إلى تكريس حالة التدافع الدولي على المنطقة، وذلك تحت زعم محاربة الإرهاب التي أضحت عنواناً بارزاً يميز سياسات القوى الكبرى في مرحلة ما بعد 11 من سبتمبر.

في يوليو الماضي وفي رسالة مباشرة "لتحفيز العرب" الاقتصادي والاستثماري دعا جيرالد هوكينز المدير الإقليمي لمؤسسة "فيزا" بأفريقيا، الدول العربية، خاصة الأفريقية منها، إلى زيادة استثماراتها داخل دول القرن الأفريقي، من واقع معدلات النمو المنتظرة في تلك القارة، التي تمثل 3% من حجم التجارة العالمية وامتلاكها 4% من الثروات المعدنية، وشجع هوكينز الدور المصري لقيادة الدفة العربية في تلك المنطقة إلا أنه رهن ذلك بترتيب البيت المصري الداخلي.

مشاريع إسلامية

من خلال تتبع مسار الأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقي يلحظ غياب وجود رؤية اقتصادية "بعيدة المدى" تحاول تعميق التنافسية مع القوى الإقليمية والدولية الموجودة في محيط تلك المنطقة، والذي ظهر جلياً في حديث "الوطن" مع الأمين العام المساعد للشؤون الاقتصادية بمنظمة التعاون الإسلامي حمدي أوبليرو التي تضم تحت مظلتها الرسمية 57 دولة عربية وإسلامية، فالمسؤول الإسلامي أكد عدم وجود "مشروع اقتصادي تخصيصي للقرن الإفريقي"، سوى مشاريع محددة نتجت في لحظة أزمة "المجاعة والجفاف" التي ضربت تلك المنطقة قبل أشهر معدودات"، وتتمحور تلك المشاريع في "توسيع دائرة زراعة القطن، وتمويل المشاريع الصغيرة، وتنمية القدرات الإنتاجية للشباب الذين يمثلون نسبة كبيرة من الديموغرافية السكانية في القرن الإفريقي".

إلا أن هناك مفصلاً مهماً أكدت عليه العديد من المصادر التي تحدثت إليها "الوطن" تتعلق بوجود العديد من "التجار العرب" بصفة فردية، ومن المهم تفعيل ذلك عبر التجميع والاتحاد لمحاولة تعميق الوجود العربي في تلك المنطقة خاصة في إثيوبيا وجيبوتي باعتبارهما أكثر دولتين مستقرتين نسبياً وسط بيئة تعاني الفوضى وعدم الاستقرار وغياب الأمن في كثير من مناطق القرن الإفريقي.

تغلغل إسرائيلي


وكالة القرن الإفريقي للأنباء (أول موقع إخباري باللغة العربية متخصص بمنطقة القرن الإفريقي الإستراتيجية، يصدر عن مركز القرن الإفريقي للدراسات والبحوث) أشارت في أحد تقاريرها الدورية حول حجم التغلغل الإسرائيلي في المنطقة، بناء على مصادر إسرائيلية خاصة إلى "العلاقة الوثيقة والأكيدة بين تعزيز العلاقات بين إثيوبيا وإسرائيل بشكل غير مسبوق، وأن العلاقة بين تل أبيب وأديس أبابا أخذت منحىً دراماتيكيّاً، أظهرت فيه القيادة الإسرائيلية مرونة كبيرة، تمثلت بالتخلي عن حليفها السابق أسياس أفورقي مقابل الظفر بتعزيز العلاقة مع النظام الإثيوبي. وتمثل تعزيز العلاقة بين الجانبين في التوقيع على العديد من صفقات السلاح بين إسرائيل وإثيوبيا بشروط ميسرة، إلى جانب تقديم خدمات في مجال التدريب، حيث توجد وحدات من المدربين العسكريين الإسرائيليين تعكف على تدريب القوات الإثيوبية. وهناك من يربط بين التعاون الإسرائيلي مع أديس أبابا ونجاح إثيوبيا في تحقيق انتصارات على إريتريا في المواجهات التي دارت بين الجانبين قبل ثلاثة أعوام.

وأشارت دراسة سابقة قام بها مركز الجزيرة للدراسات حملت عنوان (إسرائيل وقوتها الناعمة في أفريقيا)، إلى أن "المساعدات العسكرية لإفريقيا ركزت على منطقة القرن الإفريقي، فالاهتمام الإسرائيلي كان يتجه إلى أمن البحر الأحمر وحماية منطقة باب المندب، التي يمر من خلالها ما يقارب الـ 20% من تجارة إسرائيل الخارجية".

القوة الإسرائيلية الناعمة لصور الاختراق الإسرائيلي المتبعة في إفريقيا عموماً والقرن الإفريقي خاصة تتمثل في أدوات متعددة لتعزيز علاقاتها، فتارة عبر تصدير الخبرات الفنية في مجال الزراعة، وتارة في مجال التدريب العسكري وتأهيل الألوية العسكرية المسؤولة عن حماية أمن الرؤساء الأفارقة، وتقديم العلاج الطبي سراً لأرباب الحكم في المستشفيات الإسرائيلية، واستيعاب الطلاب الأفارقة في الجامعات الإسرائيلية.

التدافع الدولي والإقليمي





المتخصص في شؤون المنطقة وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور حمدي عبدالرحمن يشير إلى أن المكانة الإستراتيجية للمنطقة سرعت من أدوار القوى الكبرى المسيطرة في النظام الدولي إلى التدافع عليها من أجل كسب مناطق نفوذ لها هناك، إما سلماً من خلال العلاقات الوثيقة مع نظم الحكم في المنطقة، أو كرهاً من خلال استخدام القوة المادية.

خبير الدراسات للشؤون الإفريقية الدكتور محمد عاشور مهدي يشير في حديثه إلى "الوطن" إلى أن الانشغال الحالي بترتيب البيت العربي الداخلي خاصة في مصر والدول الأخرى بشكل عام، أعطى القوى الإقليمية على وجه الخصوص "الإسرائيليين" إلى جانب الإيرانيين والأتراك ضوءاً أخضراً من قبل القوى الدولية الكبرى للتمدد والتعمق في تلك المنطقة الحيوية، وهو ما سيضر كثيراً بالأمن القوى العربي في المشرق والمغرب"، إلا أن الدكتور عاشور بدا "متفائلاً في نظرته" من أن المتغيرات العربية التي تحصل في المحيط العربي يمكن أن تساهم في تفعيل وجودهم بشكل عام في الساحة الإفريقية.

إريتريا .. قلعة إسرائيل


في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي نشرت صحيفة اليوم السابع المصرية تقريراً مترجماً عن صحيفة "يديعوت أحرونوت الإسرائيلية" كشفت فيه الصحيفة العبرية ما تقول إنها معلومات سرية، تنشر لأول مرة عن مدى حجم التبادل التجاري والتعاون الوثيق بين إسرائيل وإريتريا، مؤكدة أنها تحولت في السنوات الأخيرة لتصبح قلعة إسرائيلية داخل القارة الإفريقية.

وأوضحت يديعوت خلال تقريرها المفصل أن عشرات الشركات الإسرائيلية تعمل تحت غطاء شركات أوروبية على أرض هذه الدولة الفقيرة في عدة مجالات بدءاً من المجالات الأمنية مروراً بالأدوية ومناجم الماس وانتهاء بالزراعة والتجارة. وأضافت "يديعوت أحرونوت" أن إريتريا تكن احتراماً وتقديراً كبيراً لإسرائيل، وأن العلاقة الأمنية بينهما متينة للغاية، حيث إن عدداً من كبار الضباط الإسرائيليين يشرفون على تدريب وحدات الجيش والشرطة وكذلك الوحدات الخاصة "الكوماندوز" هناك، بالإضافة إلى ذلك فإن العلاقة في السنوات الأخيرة أصبحت مركبة ومعقدة أكثر، ذلك لأن العديد من اللاجئين الذين يجتازون الحدود عبر سيناء ويطلبون اللجوء في إسرائيل هم إريتريون.

كما كشفت الصحيفة العبرية إنه يوجد لإسرائيل بإريتريا قاعدتان عسكريتان، الأولى متخصصة في الجانب الاستخباري وجمع المعلومات والثانية قاعدة تزويد للغواصات الألمانية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي.ونقلت يديعوت عن المحامى الإسرائيلي "عدى برونشتاين" مستشار جمعية الصداقة الإسرائيلية الإفريقية بأنه طرأ ارتفاع هائل في حجم النشاطات بين كل من تل أبيب وأسمرة خلال السنوات الخمس الماضية.

الصراع في الصومال


المتتبع للسياسة العربية على امتداد عقود مضت يدرك جيداً أنه ليس لهذه الدول أي إستراتيجية أو رؤية مستقبلية للمنطقة، كما يشير بذلك الباحث الإستراتيجي نبيل البكيري في حديث خاص إلى "الوطن" ويتمثل ذلك بعدم حلحلة الملف الصومالي، ويقول "القضية الصومالية تمثل عمقاً إستراتيجياً في الجغرافيا والسياسة العربية لا يمكن إغفالها في دوامة الصراع العربي الإسرائيلي لخطورة موقعها الإستراتيجي عسكرياً وتجارياً".

وعن نظرة الإستراتيجية الإسرائيلية للمنطقة يشير البكيري إلى أن "سياسة تل أبيب واضحة ومدروسة منذ اللحظات الأولى لصراعها مع العرب خاصة في هذه المنطقة الحساسة، تمثل ذلك في تعزيز علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة في تلك المنطقة".

وبالنسبة للصومال فقد سعى الكيان الصهيوني نحو الإمساك بخيوط اللعبة السياسية في هذه الدولة من خلال حلفائه الإرتريين والإثيوبيين أيضاً؛ بحيث تظل متحكمة وممسكة بهذه المنطقة إذ سعت إلى دعم القوات الإثيوبية التي اجتاحت الصومال لطرد المحاكم الإسلامية كما سعت لا حقاً إلى دعم الجناح المناوئ لاتفاق السلام الموقع في جيبوتي والذي أدى إلى عودة المحاكم للسلطة تحت لافتة أخرى هي حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الرئيس الصومالي الحالي والمحاكم الصومالية سابقاً الشيخ شريف شيخ أحمد.