يمكن أن تكون الشيخوخة متعة وراحة، ويمكن أن تكون أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئا.
حاولت هوليود أن تكسر هذا القانون في فيلم الحالة الغريبة لبنيامين، بولادة طفل شكله شيخ وعقله طفل، لينقلب مع محور الزمن إلى شكل شاب يافع ففتى فطفل فرضيع مقلوبا، مع تطور عقله بالمقلوب من طفل إلى شيخ، ليتحول في النهاية إلى رضيع بعقل شيخ، كما بدأ رحلته بشكل شيخ وعقل رضيع؟ أي أن شكله مقلوب الجينات وعقله مع محور الزمن، وبالطبع يبقى هذا خيالا علميا؛ فالحقيقة قرآنية بوحدة امتداد الزمن من الجسم والعقل..
والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا..
يمكن أن تنتهي الحياة بفاجعة ليس بسبب عضوي من سرطان بروستات واحتشاء قلبي وشلل العصب الوجهي، بل من عته الشيخوخة (Senile Dementia) حيث يموت الإنسان اجتماعيا ويحيا فيزيولوجيا. وتذوب الشخصية مثل آيس كريم في صيف الرياض، حيث الحرارة في الظل 47 درجة سنتجراد.
إن الشباب يتألق بأبهى صوره حين يقارن بهذا الحطام من الشيخوخة وتداعيها بدون توقف، فيقول أحدنا كما قال الشاعر ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب.
من أعجب التناقضات بين حواف العمر أن الشباب كله صحة وحركة ومتعة ولكن نصفه جنون وربعه انفعالات وما تبقى منه اندفاعات وتهور، ومن العجيب أن هذه الطاقة المتدفقة تكون في وقت يبني الإنسان نفسه فيها، حتى إذا استوى ونضج واستقر عائليا، فاجأته الحياة بتراجع القوى الحيوية جميعا.
الشباب نصف جنون مع خواء الجيب، والشيخوخة تهالك وسقوط مع امتلاء الجيب أليس عجيبا؟
لقد دفعني لكتابة هذه الأسطر رؤيتي لشخص في الفترة الأخيرة، فحزنت عليه لأنه بدأ في رحلة الخرف الشيخي، وهي رحلة تزداد اضطرابا وغرقا، تأخذ بصاحبها إلى شواطئ المجهول، ويزهد فيه أقرب الناس، ويأتي القرار الحزين الكبير بعد طول تردد أن يوضع في مصح للمرضى كبار السن، بعد أن أصبح عبئا على من حوله بطلباته التي لا تنتهي، بل بـ(تحفيضه) بالبامبرز مثل الأطفال الرضع، مع فارق أنه في نهاية دورة الحياة وليس أولها.
هناك يتقدم الإنسان إلى الحياة، وهنا يودع الإنسان الحياة، فهذه هي الدورة التي لا مفر منها ولا وزر.
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة.. يخلق ما يشاء وهو العليم القدير..
أما عفراء ابنتي فلها فلسفتها عن الشيخوخة فكل عمر له بهجته الخاصة، وحين يتأمل الإنسان بعض المعمرين يتفاءل، فقد سمعت لمحاضر في سلطنة عمان عن تجديد الفقه، وهو مغربي من تازة كان يتحدث بذاكرة رائعة وقد تجاوز الثمانين وبنفسية طيبة.
ويقول علماء الشيخوخة إن طول العمر وبركته يرجع لثلاث: غذاء معتدل وجينات، وممارسة نشاط معتدل، وحضور اجتماعي، وهو ما يسميه علماء النفس تحقيق الذات.
وهنا يمكن استعراض نماذج عن طول العمر مثل المهندس التركي سنان الذي تزوج في الثمانين وأنجب، وبيكاسو الذي تزوج بدوره في الثمانين من فتاة في العشرين، وصباح التي تزوجت في الثمانين الشاب فزادت شبابا، فهل هو هذا الحنين الخالد للشباب، أم أن الشابات يحملن من أنفاس الحياة فعلا ما يجدد خلايا الشيخ، أم كلاهما معا؟