قلة هم الذين يمكن أن يناقشوا أو يشككوا بفداحة وقسوة الظلم الذي تعرض له الشيعة في العراق، خصوصا خلال فترة حكم نظام البعث وصدام في السنوات الثلاثين الأخيرة.. وهؤلاء المشككون هم إما ممن يكره كل العراقيين، أو الشيعة فقط لأسباب متطرفة، أو جاهل ينعق خلف هذين.

الشيعة كمذهب لديهم عدد من النظريات تحدد كيفية رؤيتهم للحكم والدولة، لكونه من أكثر المذاهب الإسلامية التي أتاحت حرية في الرأي، وفتحت باب الاجتهاد في مورد عدم وجود نص.. لكن معظم تلك النظريات تتفق في ثوابت وأساسيات تتعلق بكيفية النظر في التعامل مع الشركاء والمحكومين ضمن تلك الحكومات.. رغم أن المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، لم يطرح أو يؤيد نظرية بشكل معلن أو رسمي، لكن مواقفه المعلنة أو الموثقة، تبدو وكأنها تؤسس لنظرية تختلف نسبيا عما كان متعارفا عليها. وهو ما حاول ترسيخه من خلال تقديم المرجعية، المرجع الأعلى نفسيهما كناصح ومستشار لا أكثر.. رغم القدرة على ممارسة تولي الأمور والإمساك بزمامها، لكنه كان يردد ويشجع في كل مناسبة أو خطبة أو حديث وبيان، على ضرورة أن تختار الأمة لنفسها ممثليها، وطريقها الذي يحقق لها التقدم والازدهار والحياة الكريمة، بعيدا عن التبعية أو فرض الولاءات والمواقف.

قبالة تلك المواقف الواضحة للمرجعية عملت جهات على دفع الشيعة للانكفاء داخليا، من خلال حثهم لاتخاذ مواقف طائفية، والإيحاء لأحقيتهم بالانفراد بالحكم باعتبار واقع أكثريتهم العددية، مستغلة طائفية نظام البعث، وتركيز الإرهاب على مهاجمته للشيعة تحديدا وتكفيرهم، ورغم انزلاق جهات وفئات قليلة لهذا المنحدر الخطير المقيت، لكن الشيعة بمجمل علمائهم وغالبيتهم المجتمعية رفضوا هذا التوجه.. بل ووقفوا ضده بقوة، وأثبتوا موقفهم هذا بدمائهم التي دفعوها خلال تحريرهم مدن بلدهم خلال رد هجمة داعش.


السنة من جانبهم، أثبتت لهم أحداث داعش وما رافقها من مآسٍ وفداحة الثمن المدفوع.. كل ذلك أثبت بما لا يقبل الشك، أن التفكير بشكل انفرادي وطائفي لن ينفعهم شيئا، وأن من كان يروج لأحقيتهم بحكم العراق، إنما كان يبحث عن مصالحه الخاصة الضيقة، وأنهم كمواطنين ما كانوا إلا ورقة مساومة لا أكثر في يده.

فشل معظم الأحزاب التي تولت السلطة خلال سنوات ما بعد عام 2003، جعل المجتمع الشيعي يعي وبوضوح أن هذه الأحزاب التي طالما روجت لضرورة أن يختصر الحكم بيد الشيعة وحدهم، بحجة حماية التشيع ومقدساته، كانوا ينظرون لشيء ظاهره «حماية المذهب» وباطنه صناعة «دولتهم العميقة».. وهذا أثبت أيضا أن هوية «التشيع أو التسنن» هي عقيدة وإيمان داخل النفس، يفترض بها أن تنعكس على تعامل وتصرفات.

الشيعة أو السنة أو بقية العراقيين، لن يعيشوا بأمان ما دام الطرف الآخر منهم لا يعيش بأمان.. فهناك أمور لا يمكن تجزئتها ولا تخصيصها، لفئة أو مذهب أو قومية دون أخرى، والأمان إما أن يكون لوطن بأكمله أو لن يكون ممكنا لأي أحد.. ولا أمان للوطن دون دولة قوية تحميه وتصونه.

من حق الشيعة أن يحكموا العراق لكونهم الأغلبية، لكن على أساس الكفاءة والقدرة والنزاهة ووجود الرؤية والمشروع، لا على أساس الحزبية والفئوية.. وبشكل يضمن مشاركة حقيقية لبقية العراقيين، بما يتناسب وثقلهم الواقعي الذي يعكسه تمثيلهم البرلماني، كما هي الحال في معظم النظم الديمقراطية الناضجة. التنافس السياسي يجب أن يكون بمعايير واضحة ومعروفة، تضمن تحقيق متطلبات حياة كريمة لكل عراقي، بعيدا عن انتمائه الديني أو القومي أو المذهبي، محميا ومكفولا بمظلة هويته الوطنية وعراقيته فقط، تحت مظلة دولة قوية تحمي لكل عراقي عقيدته التي يختارها، بإطار قانون عادل منصف.