استودع الله في مخلوقاته الحية كافة، جهازاً فكرياً من مهامه الرئيسة إدراك المخاطر «Risks Perception»، وبناء على مُخرجات هذه الجهاز تصدر السلوكيات المُلائمة والتي تتمثل في تجنب الخطر قدر المُستطاع لمنع وتفادي حدوثه، أو لربما الإقلال من النتائج السلبية المُترتبة عليه. يتعقد هذا الجهاز بنوع المخلوق، تتجلى صورة التعقيد عند الحديث عن الإنسان دون غيره من مخلوقات الله. يعمل الدماغ البشري على رسم صور المخاطر في شكلين، الأول «حسي، مُدرك» نتيجة خبرات تراكمية كالتفريق ما بين حيوان مُفترس وآخر أليف، الأول يُصنف على أنه خطير والثاني لا شر منه وفقا للصورة الحسية الإدراكية والمُخزنة في الدماغ البشري، لذا نتجنب ذلك الحيوان المُفترس ونتعامل مع الحيوان الأليف، والآخر «مُدرك تجريدي» بجمع من الصور الحسية المُتشابهة والتي عادة تشكل في النهاية «إدراكاً/حسياً/ تجريدياً»، أو مُجرد «إدراك /تجريدي» لذاته، هنا تظهر جلية بتوارث المُدركات الحسية والتجريدية في صور جمعية «Collective» لتصل للفرد وبدوره يختزنها ويصدرها لمن حوله.

لمزيد من التوضيح أورد هذا المثال، لو أن شخصاً امتطى طريقا طويلا بمركبته وعليه رادار لمراقبة السير بسرعة معينة، ثم تجاوز الحد المسموح به بسرعة مُفرطة، ولم يربط الحزام ولم يعرض مركبته للفحص قبل السفر، ويستخدم جواله ما بين مكالمة وإرسال الرسائل وتسنيب وتوتير كما هو واقع الكثير، ورغم أن هناك نوعين من الخطر يلوحان في الأفق، الأول حصول حادث نتيجة الجميع والذي سوف يكلف الكثير للشخص وربما يتجاوز ليصل لمن يُشاركه الطريق، وتدمير المُمتلكات العامة، وقد يصل للإعاقة أو الوفاة، والآخر اصطياد الرادار له بمُخلفات مُجردة وقت الصيد الثمين «لساهر» لا تعني في اللحظة شيئاً، مُجرد «برق خاطف»، ولكن بعد فترة من الزمن قصيرة يدفع الجميع مُرغما بألم وحسرة. هنا نقول الخطر موجود ولكن السائق لا يُدركه، بسبب أن مُحركه المعرفي مُشوه «Distortive» باستبعاد الجميع رغم وجودها. في المُقابل هناك شخص امتطى الطريق نفسها ولكنه سار بسرعة معقولة، لم يتجاوز الحد المُسموح به، وفحص مركبته قبل المُغادرة وركن جواله، الجميع أتى وفقا لقراءة سليمة من مُحركه المعرفي الذي قاده لهذا السلوك الآمن، لذا يصل سالما غانما بحول الله. قد يُعارض أحد بقول إنه قدر الله، أقول هنا يقول الله جل في علاه «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، وهنا قاعدة إدراكية حسية ومُجردة. للمزيد من التوضيح لو أن الأول شاهد حادث سير لغيره، وكانت هناك إصابات أو كان المشهد مُروعا، لوجدت محركه المعرفي «اشتغل» بطريقة صحيحة، فخفض السرعة ورمى الجوال ولكن هيهات، ليست إلا دقائق وتغيب القراءة السليمة ويعود المُحرك لسابق عهده المُشوه. الخلل هنا معرفي، تلعب فيه خبرات الشخص الماضية السبب الرئيس، لتشكل مُحتوى وطريقة عمل المُحرك المعرفي بمُؤازرة من سمات وخصائص شخصية، تلد من رحم تلك الخبرات الماضية والتي عادة تُصنف بأنها أليمة وقاسية ومُعوجة ومُنشطرة.

نعيش اليوم أزمة جائحة كورونا وتباين واختلاف الناس، ولا زالوا مُتباينين ومُختلفين في إدراك خطر الجائحة، تمثل ذلك جليا في من توكل على الله بداية، ثم التزم بقواعد الوقاية والاحتراز، فتراه مسارعا في الحصول على التطعيم، مُبتعداً عن التجمعات، مُرتديا كمامته عند الخروج وقضاء الحاجات ومُنظفاً ليديه باستمرار، وهناك «مُطنش» مُعترضا على التطعيم، ويُسيج ويُساهم في نشر الشائعات حوله، غير مُلتزم بقواعد السلوك الصحي الاحترازي، فلا كمام ولا غُسل يدين ولا تباعد، بل يكسر أعناق الجميع بمُناسبات اجتماعية يقيمها أو يحضرها مُتجاوزا التعليمات الصادرة من الجهات المُختصة، وبين «المُلتزم والمُطنش» أقوام بدرجات مُختلفة على مقياس السلوك الصحي الآمن. مثل هذا التباين بين قومي، ناجم عن مدى إدراك كل واحد منهم لخطر كورونا، فلقد أفقدتنا أحبة «راقدين في القبور، غفر الله لهم» وعشنا وسمعنا ورأينا صور المُعاناة والتي يعجز عنها الوصف لمن أصيب، وشممنا رائحة الموت الليل والنهار، وتدمرت نفسياتنا وساءت حياتنا، وانحجزنا في البيوت، توقفت مُسيرة الحياة وشُلت الحركة، وأصبحت مدننا أشباحا، وخسرنا الكثير على الأصعدة كافة بسبب هذا الفيروس وتداعياته، وهنا تتجلى صورة «الخطر الحسي والتجريدي المُدرك»، ولكنها أحبتي مُحركاتنا المعرفية وما تفعل ما بين مُحرك معرفي مُشوه يقود «للتطنيش» ليُفضي لسلوك «مُتهور وغير آمن ولا صحي، والنتيجة مرض وموت وخراب وحجر وألم نفسي وخسارة وتعطل، وفوق الجميع الامتناع عن اللقاح الخ. ومُحرك معرفي سليم يقود للالتزام بقواعد الوقاية والمُزيد من الاحترازات للخروج من هذه الأزمة العالمية بسلام وأقل القليل من التكلفة، لتعود حياتنا لسابق عهدنا الميمون والآمن بفضل الله «بلدة طيبة ورب غفور».


قد يتساءل الكثير هل من علاج لتنظيف مُحركاتنا المعرفية؟ هنا أقول نعم إنها قابلة للتنظيف ولكن تحتاج وقتا طويلا، وفيروس كورونا لا يرحم ولن ينتظر ولا بد من تدخل علاجي سريع والتدخل السريع المفعول، كعلاج طوارئ هو العقاب بأنواعه كافة، لردع أصحاب المُحركات المعرفية المُشوهة. فوفقا للمنظور السلوكي في إنقاص سلوك «غير مرغوب فيه»، فإن العقاب أسرع وسيلة تدخلية لمنع السلوك المرضي والإقلال منه في حينه، ثم وبعد انتهاء الجائحة بحول الله نسعى لتطوير برامج علاجية طويلة المدى لإصلاح المُحركات المعرفية المُشوهة والمُعوجة، والعمل على بناء مُحركات معرفية سليمة من البداية، تحت قاعدة تنمية وتعزيز الصحة والسلوك الصحي.